بنى الرئيس السادات، يرحمه الله، قراره بزيارة القدس ثم إقدامه على إبرام معاهدة على افتراض مفاده أن إسرائيل أصبحت جاهزة بعد حرب أكتوبر 73 لمبادلة الأرض بالسلام، وسيتمكن بالتالى من استرداد سيناء بأقل الخسائر الممكنة. غير أنه سرعان ما اكتشف، ربما بعد فوات الأوان، أن عليه تقديم تنازلات مؤلمة لإقناعه بصدق نواياه المعلنة بأن تصبح حرب أكتوبر آخر الحروب. لذا فقد رضخ فى النهاية لشروط إسرائيل بتضمين معاهدة السلام «ترتيبات أمنية» أقل ما يقال فيها إنها انتقصت من سيادة مصر على أراضيها، وألحقت ضرراً كبيراً بأمنها الوطنى.
وقبل أن نتطرق إلى الدلالة السياسية والاستراتيجية لهذه الترتيبات، تعالوا نستعرض أولاً ما تعنيه على الصعيد العسكرى أو الأمنى، حيث أدت إلى تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق:
منطقة (أ): تقع شرق قناة وخليج السويس، يُسمح فيها للقوات المسلحة بالتواجد بأسلحتها الثقيلة، شريطة ألا يتجاوز عددها 22 ألف جندى (ثلاثة ألوية مشاة، ولواء مدرع واحد، وسبع كتائب ميكانيكية، وسبع كتائب مدفعية مضادة للطائرات)، وألا يتجاوز تسليحها 126 قطعة مدفعية، و126 مدفعاً مضاداً للطائرات، و230 دبابة، و480 مركبة أفراد.
منطقة (ب): تقع وسط سيناء، يُسمح فيها بالتواجد لأربع كتائب من قوات حرس الحدود (بحد أقصى أربعة آلاف جندى) مجهزة بأسلحة خفيفة ومركبات.
منطقة (ج): متاخمة لحدود مصر الدولية، بعمق 20 كيلومترا، ترابط فيها قوات متعددة الجنسيات، ويحظر فها أى تواجد للقوات المسلحة المصرية، حيث يقتصر التواجد الأمنى المصرى فيها على شرطة مدنية مسلحة بأسلحة خفيفة.
ويتضح من هذه الترتيبات أن معاهدة «السلام» فرضت على مصر نزع سلاح ثلثى سيناء تقريبا، وتحريم إقامة مطارات وموانئ عسكرية فى كل سيناء، ونقل خط الدفاع الأول من ممرات متلا إلى الضفة الشرقية لقناة السويس.
فى سياق كهذا، من الطبيعى أن تستشعر جميع الأطراف المصرية، حكومة ومعارضة، وجود تهديد حقيقى على أمن مصر الوطنى، خصوصا عقب قتل الجنود فى رفح منذ شهور واختطاف آخرين منذ أيام، وأن تنشغل بالبحث عن مخرج من هذا المأزق الخطير. غير أن معظم الاقتراحات المطروحة فى هذا الصدد تتحرك فى إطار الحرص على إعادة تأكيد التزام مصر بمعاهدة السلام، والذى يبدو نابعاً من الخوف المبالغ فيه أكثر مما هو نابع منا لثقة فى الطرف الآخر، والاكتفاء بالمطالبة بتعديل نصوص الملحق الخاص بالترتيبات الأمنية باعتباره حقاً تكفله المعاهدة. فالبند 4 من المادة الرابعة منها يقول: «يتم بناء على طلب أحد الطرفين إعادة النظر فى ترتيبات الأمن المنصوص عليها فى الفقرتين 1 و2 من هذه المعاهدة وتعديلها باتفاق الطرفين». لذا يقترح البعض أن تشرع مصر فوراً فى: 1- إخطار إسرائيل رسمياً برغبتها فى فتح باب التفاوض لتعديل ترتيبات الأمن فى المنطقة «ج»، والسماح بتواجد مناسب لقوات برية وبحرية وجوية مصرية تكفى للتصدى لمختلف أنواع العمليات الإرهابية المماثلة لما وقع بالفعل أو المحتملة. 2- منح إسرائيل مهلة للرد على الطلب المصرى خلال فترة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر، تقوم مصر خلالها بتكثيف اتصالاتها بالولايات المتحدة، بصفتها شريكاً فى المفاوضات وشاهداً موقعاً على المعاهدة التى انتهت إليها، لتأييد ودعم طلبها بالتفاوض، ولتقديم التسهيلات اللازمة لإنجاح المفاوضات. 3- اللجوء إلى التحكيم وتكرار سيناريو طابا إذا لم تتجاوب إسرائيل، تطبيقاً للمادة السابعة من المعاهدة التى تنص على: «إذا لم يتيسر حل الخلافات بين الطرفين عن طريق المفاوضة تحل بالتوفيق أو تحال إلى التحكيم».
غير أن هذا النهج ينطوى، فى تقديرى، على مخاطر جسيمة، وذلك لأسباب عدة أهمها: 1- أنه يبعث برسالة غير مباشرة، مفادها أن مصر الثورة لم تتغير، وأن نظامها الجديد يمارس نفس السياسات التى اعتاد عليها النظام القديم، وليس لديه خيارات بديلة، وهو أمر غير مقبول. 2- يكرس اعتراف مصر ليس فقط بمعاهدة سلام مهينة، أطلقت يد إسرائيل لتعربد فى المنطقة، ولكن أيضا بمجمل السياسات الإسرائيلية التى تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وبالتالى يشجعها على التمادى فى غيها والاستمرار فى تهويد القدس ورفض عودة اللاجئين والإصرار على ابتلاع معظم أراضى الضفة الغربية. 3- يعترف لإسرائيل، ضمناً على الأقل، بحقها فى أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة فى كل ما يتعلق بالتواجد المصرى المسلح على أرض سيناء، وبالتالى بحقها فى اقتسام السيادة على سيناء مع مصر، وهو أمر شديد الخطورة ومرفوض جملة وتفصيلاً.
مصر ليست مضطرة، حتى وهى فى أشد حالاتها ضعفاً مثلما هو عليه حالها اليوم، لاستجداء موافقة إسرائيل فى كل مرة تريد أن تدفع إلى سيناء بقوات أكبر حجماً أو تسليحاً مما تنص عليه المعاهدة للتعامل مع منظمات إرهابية، أو حتى لإخطارها سلفا بما تنوى القيام به من عمليات عسكرية لمواجهة تهديدات إرهابية فعلية أو محتملة لأى جزء من أراضيها.
أرادت إسرائيل من هذه الترتيبات خلق حالة من الفراغ الأمنى كانت تعلم مقدماً أن المنظمات الإرهابية ستسعى لملئه. ووجود هذه المنظمات الإسرائيلية فى سيناء يتيح لإسرائيل فرصة ذهبية لتنفيذ مخططاتها. فقيام مصر باستئذانها للدفع بقوات عسكرية لمواجهة الإرهاب يمنحها فرصة لتأكيد شراكتها فى السيادة على سيناء، وإهماله من جانب مصر أو عجزها عن مواجهته يتيح لإسرائيل ذريعة للتدخل أو حتى إعادة احتلال سيناء إذا ما اقتضت الحاجة.
إن وضع إسرائيل أمام أمر واقع جديد هو البديل الوحيد لإجهاض مؤامراتها وإحباط مناوراتها، وربما يمنح القيادة المصرية، السياسية والعسكرية على السواء، فرصة حقيقية يتعين استغلالها لإعادة توحيد الصف الوطنى وإنهاء حالة الاستقطاب الراهنة.. فهل من مستمع أو مجيب؟