تأمل الأسبوع الذى انقضى بكل ما فيه، من إحباطات دارت حول عملية إرهابية، نتج عنها اختطاف سبعة من الجنود المصريين، وأفراح جاءت نتيجة الإفراج عنهم. وربما جاءت هذه الأخيرة ليس فقط من عودة الأبناء سالمين، وإنما لأن إدارة الأزمة كلها جرت بدرجة من التناسق لم تكن متصورة بين مؤسسة الرئاسة والقوات المسلحة والمؤسسات الأمنية الأخرى. وبشكل ما جرت إدارة الأزمة بمزيج معقول من اللهجة الهادئة حتى الإشارة- اسميا أو فعليا- بالاستعداد للتفاوض، إلى اللهجة الحاسمة القاطعة بضرورة الإفراج عن المختطفين، التى عززتها عمليات حشد واسعة النطاق، أعطت المصداقية للتهديدات التى جرى إرسالها بوسائل متعددة. مثل هذا التكامل جرى ضد كل ما كان متصورا من جماعات عدة تقع فى اليمين واليسار، تتعامل مع الوضع السياسى الراهن فى مصر على أساس من استثمار قطيعة بين الحكم والمعارضة من جانب، والحكم والمؤسسات القضائية والعسكرية والأمنية فى البلاد من جانب آخر. كل ذلك أثبت أن للضرورات الوطنية أحكامها التى فرضت- ربما بقوة الرأى العام- التعاون والتناغم من ناحية، وربما كان الذى لا يقل أهمية من ناحية أخرى هو أنه عندما توجد هذه الضرورات فإن اتفاقية السلام «المصرية- الإسرائيلية» لم تقف عائقا إطلاقا أمام الإجراءات المصرية التى وضعت فى المنطقة «ج» ما يتعدى بمراحل ما هو منصوص عليه فى البروتوكول الأمنى للمعاهدة. وسواء تم ذلك نتيجة تفاهم «مصرى- إسرائيلى»- أو أن التطور التكنولوجى فى مجال الإنذار المبكر «مزيج من الأقمار الصناعية والسور الإلكترونى على الحدود والمجسات وقرون الاستشعار وطائرات الدرون بدون طيار»- قد جعل القيود على التسلح أقل أهمية مما كان فى السابق.
انتهت الأزمة على كل الأحوال، ولكنها كما هى العادة فى كل الأزمات تعد كاشفة عن معضلات متعددة، من الجائز أن يكون التعامل معها مخرجا من مرض الإخفاق التاريخى الذى ألمّ بمصر الحديثة. وأول المعضلات أن الحرب ضد الإرهاب لم تنته بعد، بل إنها ربما ازدادت حدة خلال العامين الأخيرين، ليس فقط بحوادث العنف والعمليات الإرهابية التى أخذت أشكالا متعددة. لقد كانت عودة ثلاثة آلاف من «المجاهدين» فى أفغانستان وباكستان وغيرهما من بؤر الإرهاب فى العالم، بالإضافة إلى من خرجوا من السجون عنوة أو نتيجة العفو، وتسليح كل هؤلاء من ترسانات الدول الفاشلة حولنا يضاعف الخطر الإرهابى على البلد. وكان متصورا أن ارتباط الحكم بحركة الإخوان المسلمين يمكنه أن يشكل حاجزاً فكرياً وعقائدياً ضد الإرهاب والإرهابيين بشكل عام، بل إنه يمكنه أن يقيم جسرا مع القلوب والعقول التى ضلت، ويقودها إلى هداية الاعتدال والوسطية والمدنية والعصرية التى يبشر بها المصريون والعالم بأنها جوهر الدين والملة. على أى حال، لم يضع الوقت بعد، ولكن المعضلة باقية معنا مهددة ليس فقط للأمن القومى المصرى بمعناه الضيق، وإنما لسلم القيم المصرية الوطنية بمعناها الواسع القائم على السماحة والتسامح والتعددية الفكرية والسياسية والدينية، فالتطرف يُولِّد تطرفاً مضاداً، والتعصب يخرج من جوفه ما يجعله شاملاً للمجتمع كله.
المعضلة الثانية تدور كلها حول سيناء التى بات اسمها يفرض نفسه علينا مرتين، مرة فى أعياد التحرير، ومرة مع وقوع الأحداث الإرهابية. ومن عجب أننا فى هذه المرة أو تلك، وقبل ثورة يناير وبعدها، نعيد فتح الملفات بالطريقة نفسها التى نفتحها كل مرة من أول الحديث عن التعمير، وحتى التعامل مع الصورة العامة لسيناء وأهلها، فنعطيهم التمجيد بالكلام، أما بالفعل، فتبقى الأمور على حالها. وما زلت أذكر عندما كنت عضوا فى مجلس الشورى أن رئيس مجلس الصناعة بالمجلس والعضو البارز بالحزب الوطنى الديمقراطى والمجلس الأعلى للسياسات السيد فريد خميس- قدم تقريرا ممتازا عن سيناء، جرت عليه المناقشات، كما تجرى نصا الآن. وأيامها، وكنت متحمسا للتقرير، قيل لى إنه التقرير الحادى عشر فى المجلس، وهناك مثلها فى مجلس الشعب، وقبل هذا وذاك هناك الخطة القومية لتنمية سيناء. جرت المناقشات أيامها واسعة فى حضور أبناء سيناء الذين تنطق عيونهم بالشك، ولكن سرعان ما اكتشفت أن هناك معسكرا قويا ضد فكرة تعمير شبه الجزيرة المقدسة استنادا إلى خوف مروع على الأمن القومى المصرى، حيث لا يمكن الدفاع عنها، بينما مئات الألوف، إن لم تكن الملايين، من المصريين يقفون فى طريق التحركات العسكرية. وكان هذا المعسكر ضالعا أكثر فى عملية اتخاذ القرار، ومن ثم جرت تنمية جنوب سيناء وزهرتها شرم الشيخ، وساحل خليجى السويس والعقبة، وتم وضع البنية الأساسية للدخول والخروج من سيناء عن طريق نفق أحمد حمدى، وجسر السلام، والطريق الدولى مع شبكة لا بأس بها من الطرق والمنافذ. والحقيقة أن كل ذلك لم يكن كافيا، كما أنه كان يقلب الصورة لعلاقة التنمية والثروة عامة بالأمن القومى، فالأصل فى المسألة أن يتم البناء المستمر للبشر والحجر، لأن ذلك هو الصخرة الحقيقية لعناصر القوة الوطنية، وبعد ذلك تأتى مهمة ترتيبات الدفاع عنها، التى على الوطن ساعتها أن يقدم ما يلزم من أدوات التسليح والبنية الأساسية ما يساعد على هذه المهمة. العكس ليس صحيحا، ولا يمكن أن نقيم دفاعا عن الوطن عن طريق مناطق عازلة شرقا فى سيناء وغربا فى الساحل الشمالى والصحراء الغربية فى ظل التطور الهائل فى أساليب القتال والحرب، التى رغما عنها وخلال نصف قرن فقط، احتلت سيناء، أو بعض منها- ثلاث مرات، بينما صارت الحدود الغربية منفذا للسلاح والإرهابيين من كل نوع.
إذا استقر هذا المبدأ، فإن حل معضلة سيناء وفراغها يمكن حلهما من خلال ثلاثة أساليب فورية: أولها أن تطبق كل القوانين السارية فى وادى النيل على أهل سيناء، وفى المقدمة منها قوانين الملكية والاستثمار، التى بدونها لن نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام، لأن أهلنا فى سيناء سوف يشعرون دوما بالغبن ونقص المساواة، ومن ثم الغضب والسخط والإحباط. وثانيها استكمال مشروع ترعة السلام الذى بدأه النظام السابق، ثم نكص عن استكماله وتراجع، بينما التقطت الصور للمياه وهى تقترب من قلب سيناء. وثالثها تحقيق التكامل ما بين مشروع تعمير سيناء مع مشروع تنمية إقليم قناة السويس، وفى كلتا الحالتين سوف يحتاج الأمر إنتاج الثروة أولا، ثم عمل الترتيبات اللازمة للدفاع والحماية ثانيا، اعتمادا على الموارد التى ستصير هائلة من تنمية الإقليمين.
المعضلة الثالثة التى نجد مظاهرها فى الاختلافات والانقسامات الوطنية الذائعة- تتمثل فى أن الأوضاع الراهنة فى سيناء لم تكن لتظهر لو أن لدينا سعيا جادا لبناء الوطن، فمثل هذا البناء لا يمكن أن يقام اعتمادا على مشروع للتنمية هنا أو هناك، وإلا لكانت مديرية التحرير أو الصالحية أو السد العالى أو توشكى قد أفلحت فى نقل الوطن إلى صفوف الدول المتقدمة. ولكن الدخول فى نادى هذه الدول لا يقوم على مشروع أو مشروعات، وإنما على نظم تغير من «هارد وير» و«سوفت وير» مصر كلها!.