هناك سحر مضروب على سكان عمارتى القديمة! هم أحرار فى الظاهر. لكن لا الزمن يمضى ولا الأيام تتتابع!. هم سجناء الحاضر لا يملكون إلى المستقبل سبيلا. مضروب عليهم سحرٌ ما. يضجون بالضجر. يرفعون الشكاوى إلى (الساحر)! (كريم) أنهى لتوّه الشهادة الابتدائية وسيجنّ شوقاً للالتحاق بالمدرسة الإعدادية. (مكرم) يريد أن يكبر وبسرعة. وبالنسبة لـ(أكرم) فقد حان وقت الفطام ولن يظل يشرب الحليب إلى الأبد. وحتى والدهم (السودانى بك) فهناك ترقية تنتظره. أرجوك أيها الساحر نحن نعرفك منذ أن كنا جيراناً فى نفس العمارة، ارفع السحر عنا، وافتح طريقاً إلى المستقبل.
بدأ الأمر برسالة تلقّاها من (مكرم السودانى) فى البدء لم يتذكره. وسرعان ما أشرق الاسم فى ذاكرته. إنه الجار القديم فى العمارة العتيقة.
(كريم) و(مكرم) و(أكرم)، كانوا أصغر منه بسنوات، لكن العام فى الطفولة كان له شأن وخطر. (مكرم) صار اليوم قاضياً معروفاً يستضيفونه فى الفضائيات. لكن بالنسبة إليه هو دائماً وأبداً (مكرم) القديم.
لم ينم ليلتها حين تلقى الرسالة. الحنين إلى الماضى يعذّبه. لا يعنى ذلك أنه كان سعيداً وقتها، بل كان الماضى مفعماً بالأحزان، ولكنه برغم ذلك عمره أثمن أيامه ولياليه. هب أن لديك ابناً غير جميل، هل ستكف عن حبه؟!.
وكالعادة كلما ظهر فى أفق حياته أحد رفاق الطفولة عاوده الحنين إلى الماضى! لشدّ ما يشتاق إلى العمارة القديمة! إلى أيام الصبا والربيع والحب الأول!.
اختراق الزمان إلى الماضى لعبة يجيدها ومارسها عشرات المرات. لكن المشكلة أنه يعود إلى الحاضر مُحمّلاً بشجون ترهقه. والحنين إذا لم يشبعه يتحول إلى ثقب أسود عملاق يمتص حاضره!. الحل الوحيد الذى توصل إليه هذه المرة أن يُلقى بتعويذة سحرية، تمنع مرور الزمن.
تسلل إلى الماضى، عَبَر الفجوة الزمنية، نحن الآن فى منتصف السبعينيات. الإرسال التليفزيونى لم يزل أبيض وأسود ودرجات لا حصر لها من الرمادى المحايد. والكروان لم يزل يجلجل كل مساء فى سماء المدينة. وعمارته القديمة خرجت من الماضى بألوانها الزاهية، و(كريم) و(مكرم) و(أكرم) جميعهم أطفال. لا يعرفون أن الساحر يدور حول البيت وهو يُلقى تعويذته: «محظور على سكان هذه البناية أن يتقدموا فى العمر!».
الساحر يحرق بخوره، يركب مكنسته الطائرة، يتأمل بلورته الزجاجية، يمارس جميع الحيل والتقاليد السحرية، وبالفعل ينجح، يلف المبنى ضباب كثيف أبيض، تدور الأرض كما تشاء، تتعاقب عليها السنون، وتبقى هذه البناية عصيّة على الزمان. (كريم) يظل فى الشهادة الابتدائية برغم أنه سيجن للالتحاق بالمدرسة الإعدادية، (مكرم) لن يصبح قاضياً. و(أكرم) يشرب الحليب إلى الأبد.
أسعيد أنت؟ أتراك راضياً أيها الساحر؟!.. لكنك نسيت شيئاً مهماً! أنك حين ألقيت تعويذتك، ورميت سحرك كنتَ لحظتها خارج البناية! لذلك كبرتَ! أفلت العمر منك! وراوغك الزمان! وانتشر الشعر الأبيض.
وفجأة تُنقش داخلك أبيات لإيليا أبو ماضى قرأتها منذ زمن بعيد وعادت إلى ذاكرتك فجأة:
وطنَ النجومِ، أنا هُنا، حدّقْ.. أتذكُرُ مَن أنا؟/ ألمحتَ فى الماضيْ البعيدِ فتًى غريراً أَرعنَا؟/ أنا ذلكَ الوَلَدُ الّذى دُنياهُ كانت ههُنَا! كم عانقتْ روحِيْ رُباكَ وصفّقتْ فى المُنحنَى.