... أم كانت موجة غضب، أم هو انقلاب؟ الثورة هى حركة شعبية تطيح بنظام ظالم، وتقضى على أوضاع وآليات التمييز والإفقار فى المجتمع، لتُحدث تغييرا جذريا سياسيا واجتماعيا. أما الاستيلاء على السلطة، مع الإبقاء على نفس الآليات والأوضاع الظالمة، فهو انقلاب.
ما نشهده طوال عامين لا يشير إلى ثورة تُستَكمل وتُحقق مطالبها، بل محاولات للسطو على السلطة. فى الحدثين المصرى والسورى لم يكن الشعبان إلا وسيلة، توظيف غضبهما، لتصعيد فصيل اتفق وخطط ونفذ. لقد خرجت حركات شبابية ضد النظام، تهدف إلى إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع ثبات الشباب فى الميادين، وتوسع المشاركة الشعبية، ظهرت المطالب بالتغيير الجذرى، وتحولت إلى ثورة شعبية. لكن ما هى إلا أيام حتى بدأت الاختراقات، وتنفيذ مخططات لحصد نتائج تضحيات الشباب!
رغم أنى سعدت بالثورة وشاركت فيها، فإن طوال عملى فى القرى والعشوائيات لم أتصور أن ثورة مفاجئة هى ما ستُصلِح الحال، وأن ما نحتاجه بإلحاح هو عمل إصلاحى دؤوب فى كل المجالات والبقاع، بجهود الشباب المتطوع والواعى. عندما تتجول فى بقاع مصر وتعمل مع الناس، تُدرك سريعا أن غياب الوعى وإحلال المرض والفقر والجهل محله، هو الآفة المزمنة التى تحتاج إلى علاجات ثم تطعيمات وتحصينات. عملية تأخذ وقتا، ولكن تأجيلها والإهمال فى القيام بها، أو محاولة الاستغناء عنها بحركة استئصالية سريعة، لا يشفى ولا يُحَصن. وتُدرك أن الجرم الحقيقى إنما يُسأل عنه النظام والنخبة، والمجتمع المدنى، والأحزاب، والنقابات.
لم تتبلور برامج لإصلاح وتنمية وتوعية وتغيير المجتمع، لم تقم الأحزاب والمؤسسات المدنية بدورها، لم تكن الفضاء الذى ينضوى تحته المواطنون، للتعبير عن مطالبهم ومصالحهم، يحشدون جهودهم للتوعية بحقوقهم، والضغط على النظام من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية وإحداث التغيير. بل ركنت المؤسسات للوم السلطة مثلها مثل أى مواطن فقير جاهل! ولم يتغير الوضع كثيرا بعد الثورة، ما زلنا نفتقر إلى العمل الحقيقى وسط الناس، وليس الاكتفاء بالمعارضة التقليدية - وإن تنوعت أشكالها.
عندما خرج الشباب معبرين عن تفاقم سخطهم فى 25 يناير، هرول الجميع (زعماء قدماء لمرحلة جديدة)، علهم يحصلون على منفعة، لم يقدموا شيئا قبلا، وأخطأ من توقع أن يُقدموا جديدا.
لكى نقول ثورة شعبية، يجب أن نتأكد أن الشعب قد اختار هذا الطريق، وكل مواطن شارك كان يدرك المخاطر وعلى دراية بالنتائج! والزعماء يقدمون من التضحيات ما لا يقل عما يقدمه أى مواطن، وأن هناك توافقا بين الجميع على الهدف.
لكى نقرر أن ما حدث ويحدث هو إرادة واختيار الشعوب، دعونا نتساءل! هل لو عاد الزمن وسُئل الشهداء الذى يتساقطون من أول يوم للثورة المصرية، إذا علموا أن ما نحن فيه اليوم هو النتيجة، هل كانوا سيشاركون فى الثورة؟ يقدمون أرواحهم لكى نغير مبارك، ويظل كل شىء على حاله، بل ويسوء كل يوم، والثوار إما يُقتَلون وإما يُعتَقلون!
هل لو سُئل الـ70 ألف شهيد فى سوريا، وملايين النساء والأطفال والأسر المشردة واللاجئة. إذا سُئلت النساء السوريات اللاتى اغتُصبن أو تعرضنَ للزواج من أى نطع بـ«ألف جنيه» كما ينادى المشايخ فى بعض المساجد (على أساس أننا لا نستطيع أن نستر ونحمى إخواننا السوريين والسوريات إلا بالزواج من بناتهم!).
إذا سألنا هؤلاء جميعا، تُرى هل كانوا سيختارون نفس الطريق؟
لا يجب أن نكتفى بإجابات ومواقف الزعماء، لتقرير مصير الشعوب. الزعماء لا يختلفون فى مصر عنهم فى سوريا، واختلاف الوضع جاء من اختلاف الرئيس مبارك عن بشار. لو كان مبارك قد تمسك بالسلطة، أو المجلس العسكرى من بعده، ربما لكان حالنا اليوم أشبه بحال السوريين. الزعماء لا يبالون إلا بتطلعاتهم ومصالحهم.
هل سمعت عن زعيم مصرى قتل أو عذب أو اعتقل بسبب الثورة ومشاركته فيها؟ هل شهدت زعيما سوريا يناضل من داخل سوريا؟ أو شُردت أسرته، واغتُصِبَت بناته، أو اضطر لبيعهن فى شكل زواج؟ هل سمعت عن أحدهم فى الصفوف الأولى للمعارك؟ ألا يعيشون محتفيا بهم، يتنقلون بين العواصم الأوروبية!
الشعوب تدفع الثمن من حريتها وكرامتها وحقوقها، تُسحل وتقتل وتغتصب، تشرد وتعيش فى الملاجئ تحيا كالرقيق، ليقسم الوطن، ويصل الزعماء إلى مأربهم «السلطة».
تتغير وجوه، ولكن تظل الآليات والسياسات على حالها. ولا يحمل الجديد إلا مزيدا من التهميش والإفقار والقهر للشعوب.
تُرى هل كانت ثورة؟
هل يتدارك زعماؤنا وأحزابنا ومؤسساتنا المدنية مسؤولياتهم قبل ضياع الوطن؟
أم أن الثورة الحقيقية قادمة لتعصف بهم جميعا سلطة ومعارضة؟!