«الأزرق اللون الأكثر دفئا» للمخرج التونسى عبد اللطيف كشيل يحلل طبيعة المرأة السحاقية!
الطبيعة قاسية جدا هذه المرة على رواد المهرجان، حيث إن السماء لا تزال حبلى بالأمطار ورغم ذلك فإننا ونحن نترقب بعد غد إعلان النتائج لم نعثر حتى الآن على الفيلم الذى يستعصى على النسيان ويستحق مشقة الرحلة ماديا وأدبيا وأيضا صحيا، حيث أصيب أكثر من زميل بنزلة برد حادة، إلا أن هذا لم يمنع أغلبهم من أن يتعاقدوا مع الفنادق الصغيرة التى يقيمون فيها على أخذ عربون لـ«كان 2014»، كثيرا ما يبدو لى أن علاقتى بالمهرجان صارت ومع العديد من الزملاء تُشبه المدمنين، أجد نفسى منذ عام 92 وقد ذهبت إلى تلك المدينة الصغيرة فى الجنوب الفرنسى للحصول على الجرعة السنوية، «ياه» مر من عمرى 21 عاما، تُصبح جداول المهرجانات هى جداول حياتى، أصحو طبقا لعرض أول فيلم وأنام بعد مشاهدة الفيلم الأخير، مواعيد المهرجانات هى دستورى الدائم الذى لا أستطيع أن أخالفه مهما كانت الأسباب، فأنا مثلا لم أتخلف دورة واحدة عن حضور مهرجان «كان» منذ بداية علاقتى به، رغم ما أتكبده من نفقات يزداد معدلها عاما بعد عام بسبب قوة «اليورو» مقارنة بالجنيه المصرى وأترحم دائما على أيام «الفرنك» الفرنسى الطيب المتواضع الذى كان باستطاعة الجنيه المصرى آنذاك أن يتصدى له ويواجهه قائلا «قوم اقف وانت بتكلمنى»، أما «اليورو» فإن الجنيه لا يعرف أمامه حاليا سوى الانحناء والخضوع.
أتابع فى المهرجانات ليس فقط الأفلام والندوات ولكن أيضا الوجوه، وجوه البشر وأرى كيف يرسم الزمن بصماته التى لا تمحى على وجوه زملائى، وأقول من المؤكد أنهم يشاهدون الزمن وهو ينطق، بل يصرخ على ملامحى، ولكنى أسارع بطمأنة نفسى وأسمع صوتى الداخلى يردد ربما يكون الزمن كريما معى أو بتعبير أدق أظن ذلك وأرجو أن لا يخيب ظنى، أرى شحاذة فى مدينة «كان» منذ 21 عاما وهى تحمل طفلا عمره عام وبعد مرور 21 عاما لا يزال الطفل فى عامه الأول، إنها تذكرنى بالشحاذين فى بلادى حيث يؤجرون طفلا رضيعا ويظل إلى الأبد رضيعا، أرى القاعات والأشخاص حتى الذين لا أعرفهم شخصيا فأنا أراهم باعتبارهم من ملامح حياتى.
أتذكر وجوها عديدة كانت من معالم مهرجان «كان» ثم لم تعد تذهب إليه لأسباب متعددة، فى مهرجان «كان» تستمع إلى هتاف يسبق عرض بعض الأفلام وأستمع إلى اسم «راؤول» ناقد فرنسى راحل تعود أن يُنطق بصوت مسموع باسمه قبل عرض الأفلام، وبعد رحيله لا يزال زملاؤه القدامى يتذكرونه ويهتفون بمجرد إطفاء نور القاعة «راؤول.. راؤول»، فى المهرجانات نكتب عن الأفلام والندوات واللقاءات وحتى الكواليس بكل تفاصيلها، لكننا لا نكتب عن أنفسنا وعما نشعر به لأننا لسنا آلات تذهب للمتابعة فقط، إننا بشر، وأعترف لكم أن أسوأ مشاهدة للأعمال الفنية هى تلك التى نجد أنفسنا مضطرين لحضورها فى المهرجانات، لأننا متخمون بكثرة الأفلام التى تتدفق علينا، فى اليوم الواحد قد يصل كم المشاهدات أحيانا إلى خمسة أفلام، هل هذه عدالة؟! نحن نظلم أنفسنا بقدر ما نظلم الأفلام، لأنك بعد أن تشاهد الفيلم ينبغى أن تعايشه ليشاهدك ويمنحك نبضاته، ولكن كيف يتحقق ذلك وأنت تلهث من فيلم إلى آخر، ثم بعد أن نعود من السفر ينبغى أن تستعيد نفسك قليلا قبل أن تشد الرحال إلى مدينة أخرى ومهرجان آخر، ووجوه تلتقى بها كثيرا ووجوه تشاهدها لأول مرة، أسعد بالأيام وأشعر بالشجن على الزمن الذى يسرق من بين أيدينا، نعم المهرجان يعنى عيدا وفرحة وبهجة وهو بالنسبة لى يحقق كل ذلك إلا أنه أيضا يخصم من أعمارنا زمنا وكما قال الشاعر «ما أروع الأيام يا صاحبى لولا أنها إذا مضت لا ترجع»، أشعر بمرارة الأيام والسنوات المسروقة، ويتردد فى أعماقى صوت عبدالوهاب بشعر على محمود طه «أنا من ضيع فى الأوهام عمره»، أما أنا فأقول «أنا من ضيع فى المهرجانات عمره»!!
لمن تسند جنسية العمل الفنى إلى المخرج، أقصد هوية المخرج أم إلى الإنتاج، هذا هو السؤال الذى كثيرا ما يتردد وأتذكر أننا قبل عامين فى أثناء إعداد اللائحة الجديدة لمهرجان، تناقشنا طويلا وكان رأيى أن الإنتاج هو الذى يحدد الهوية، ورغم ذلك لو تابعت أغلب ما نشر فى وسائل الإعلام خصوصا العربية عن المشاركة العربية فى «كان» هذه الدورة ستجد أن فيلم «الأزرق اللون الأكثر دفئا» للمخرج عبد اللطيف كشيك يصنفه البعض على اعتبار أنه فيلم تونسى، رغم أنه فقط فرنسيًا، الإنتاج هو الذى يحدد المسار، حتى لو كانت القضية عربية أو الأبطال يتحدثون لغة عربية فهذا لا يمنح الفيلم هوية أخرى.
كان مثلا المخرج الفلسطينى هانى أبو أسعد حريصا على أن إنتاج فيلمه الجديد «عمر» برأسمال فلسطينى وبمساندة من مهرجان «دبى»، بينما فيلمه قبل الأخير «الجنة الآن» أسهمت فيه أكثر من دولة، ولكن ظل الفيلمان فلسطينيين طالما شارك فى الإنتاج الجانب الفلسطينى.
الهوية إذن لفيلم «الأزرق اللون الأكثر دفئا» هى الفرنسية حسب جهة الإنتاج، بينما المخرج عبد اللطيف كشيك تونسى الهوية. يتناول الفيلم قضية شائكة وهى الميول الجنسية المتناقضة لفتاة فى الخامسة عشر من عمرها، لا تدرى أين تتجه بمشاعرها لأى الجنسين، بينما الفتاة الأخرى تكبرها بنحو عشرة أعوام واختارت أن تُصبح سحاقية، بالطبع حتى فى المجتمع الأوروبى على عكس ما يعتقد البعض فإن تلك الميول لدى قطاع من المجتمع مستهجنة ومرفوضة، رغم أن القانون لا يدينها إلا أن المجتمع المحافظ بطبعه يرفض ذلك، المخرج وهو أيضا كاتب السيناريو لا تستطيع أن تقول إنه يبيح أو لا يبيح، فقط هو يحلل الطبيعة السحاقية لبطلتى الفيلم لى سيدو وعديلة إيكشرابو، قدمت الممثلتان مشاهد الصراع والعتاب بمساحة كبيرة من التلقائية، حرص المخرج على أن يسمح لكل منهما أن تسمح فقط للأحاسيس لكى تنطلق وأن تتعاملا مع الحوار اللحظى الذى قد يخرج بهامش على السيناريو، كما أنه قدم إلى الفتاتين أسرتين متناقضتين واحدة لا ترى بأسا فى الإفصاح عن تلك الميول، والأخرى تحيط ذلك بقدر كبير من السرية، ليلقى ظلالا غير مباشرة على طبيعة المجتمع الفرنسى، طالت مشاهد الممارسات السحاقية، حتى إنك لو لم تكن متابعا للفيلم منذ البداية لاعتقدت أنك بصدد فيلم «بورنو» إلا قليلا!! كان المخرج يحاصر دائما بطلتيه فى أماكن ضيقة ليبدو اللقاء حميما، كما أنه يضمن أن الصراع على الجانب الآخر سيصبح عنيفا، كان يبدو وكأنه يخنق بطلتيه داخل الكادر. إنه فيلم يصطدم بالمجتمع الشرقى بقيم دينية وثقافية ترفضه شكلا وموضوعا، ولهذا أرى أنه على الرغم من أن البعض حاول أن يتباهى «بشعر بنت أخته» ويعتبره فيلما تونسيا ليؤكد أن للعرب فيلما فى المسابقة الرسمية، فإن العديد من المهرجانات فى عالمنا العربى ستتحرج فى عرضه إلا فقط فى إطار عروض خاصة وللصحفيين والنقاد فقط، ويبقى العنوان «الأزرق اللون الأكثر دفئا» إنها البطلة الأكبر عمرا والتى أدخلت المراهقة الصغيرة إلى هذا العالم الشاذ حيث كانت ترتدى باروكة زرقاء وكأن العنوان يحمل الإجابة فالبطلة المراهقة اختارت أن تُصبح سحاقية.
عُرض صباح أمس الفيلم الأمريكى «نبراسكا» للمخرج ألكسندر باين أظنه من الممكن أن يصبح هو الحصان الأسود فى تلك الدورة ويقتنص السعفة!!