هل من الممكن أن يعزلنا المهرجان عما يجرى فى بلادنا من أحداث سياسية متلاحقة، الحقيقة هى أن مصر لا تغيب عن الجميع والكل يسأل مصر رايحة على فين؟ هذا هو ما يردّده كل من ألتقى به فى «كان»، حضور الشأن المصرى لا يمكن إغفاله أبدًا ودائمًا ما تأتى إجابتى وهى تحمل التفاؤل لكل مَن يسأل بشغف ممزوج بالخوف، أنا أرى أن ما يريده حكم المرشد هو ضرب الأمل وإجهاض أى محاولة للتخلّص من الكابوس الذى تعيشه مصر. عندما التقيت صديقى الناقد العراقى، قال لى بعد رحيل صدام كنا نقول «إن اللى جاى أفضل»، وها أنت ترى ما حلّ بالعراق، مرّت السنوات ولم يأتِ إلا الأسوأ، قلت له مصر أبدًا لن تسقط، فهى عصيّة على أن يعيد أحد تلوينها، لأنها ليست على المحارة، مصر فى عز الأزمة تشارك فى مهرجان «كان»، نعم لنا جناح صغير جدًّا فى السوق تُهت فى الوصول إليه أكثر من مرة، ولكننا رغم كل شىء نحاول المقاومة وبإمكانيات مادية صغيرة جدًّا، لم أستطع أن أشارك فى حفل الاستقبال الذى أقامته سهير عبد القادر لإعلان الدورة القادمة لمهرجان القاهرة، فلقد كان فى نفس الوقت يُعرض الفيلم الفلسطينى «عمر»، وبعد الفيلم كنت أراجع مقال أمس، نعم كان لى خلاف معلن وموثّق مع وزير الثقافة السابق الذى ألغى دور المجتمع المدنى وأعاد إدارة المهرجان إلى الوزارة رغم أن الثورة كان من بين تداعياتها منح المجتمع المدنى الفرصة كاملة لتولى المسؤولية فى الإشراف على النشاطات الثقافية، وبينها بالطبع المهرجانات السينمائية، ولكن بعد رحيل عرب عن الوزارة صار المشهد ملتبسًا، كيف يُقام المهرجان ويستمر فى ظل دولة معادية فى توجهها الفكرى للثقافة وتحمّلت وزارة السياحة بمجهود خاص من سهير عبد القادر، مسؤولية إقامة الجناح بأقل التكاليف، وأُقيم أول من أمس حفل استقبال فى فندق خمسة نجوم، لم أتمكن من حضوره، حيث إنه توافق مع عرض الفيلم الفلسطينى «عُمر» الذى يمثّلنا كعرب داخل المهرجان.
الوقت فى «كان» تحديدًا يؤكد لك تلك المقولة بكل صرامة، وهى أنه كالسيف إذا لم تقطعه قطعك، وطوال الرحلة يقطعنى أحيانًا وأقطعه فى أخرى. اللهاث هو الصفة المميزة لحالة كل مَن يذهب إلى هناك، تقرأ وتشاهد وتكتب، كيف نعثر على الوقت الكافى لكل ذلك، إنها معركة خاسرة لا محالة، لأن كل شىء ينبغى أن يخضع للتأنى والتأمل، العمل الفنى عندما تشاهده ينبغى أن تحلم به وتعايشه وليس مجرد مشاهدة، تلك هى المعضلة على رأى هاملت شكسبير.
كيف تنتقى الفيلم عندما يكون لدينا فيلم عربى، فالحقيقة هى أننا ننحاز لا شعوريًّا إليه، لأنه يمثّلنا، الفيلم العربى أيًّا ما كانت جنسيته، هو فى النهاية فيلمنا وعندما تصبح القضية هى فلسطين نقترب منه أكثر، وعندما أقرأ أن مخرج الفيلم هو هانى أبو أسعد، يصبح الشغف مضاعفًا. شاهدت لهانى لأول مرة فيلمه «زفاف رنا» فى قسم «أسبوعى المخرجين» فى مهرجان «كان» قبل أكثر من عشر سنوات، وكان الفيلم يعلن مباشرة أن المقاومة هى الحل وهى ليست فقط بإطلاق الرصاص ولا الحجارة، ولكن بممارسة طقوس الحياة بكل أبعادها، لأن إسرائيل تريد اغتصاب الحياة، ولهذا يصبح حفل الزفاف الذى أُقيم فى الشارع وفى عز المقاومة هو إحدى وسائل المقاومة التى يخشاها ويتحسّبها الإسرائيليون مثلما يخشون إطلاق الرصاص، فى فيلم أبو أسعد الرائع «الجنة الآن» 2005، كان يشرع للمقاومة بالسلاح، ولكنه يرفض إباحة قتل المدنيين، وهو الفيلم الحاصل على جائزة الكُرة الذهبية، ورشّح من بين خمسة أفلام لأفضل فيلم أجنبى فى مسابقة الأوسكار قبل سبع سنوات، وهى سابقة لم تتكرّر كثيرًا سوى مرة أو اثنتين على المستوى العربى.
هذه المرة يأتى إلى «كان» مع فيلمه «عمر» حريصًا على المقاومة، ويقدّم لنا شخصية المناضل بعيدًا عن تلك الصورة النمطية التى تحيله إلى كائن مثالى، الأبطال الثلاثة الذين يطلقون النيران على الجندى الإسرائيلى من خلال عملية بدائية جدًّا شاهدناها أكثر من مرة، ولا أظن أن الأمور لم تتطوّر، الجدار العازل بين الخطّين الأخضر والأحمر يلعب دور البطولة، بطل الفيلم ينتقل ما بين الجانبين، فهو يعمل داخل الخط الأخضر الذى تسيطر عليه إسرائيل، بينما حبيبته فى الخط الأخضر الذى تحكمه السلطة الفلسطينية، وهى كما نعلم جميعًا سلطة محدودة ولا يزال لإسرائيل اليد الطولى فى التحكم بكل تفاصيل الحياة، داخل المعتقل نقترب أكثر ونكتشف أن الخيانة هى وجه آخر للنضال، بل هى تُشكّل نوعًا من التلازم بينهما، حتى الشك بين أغلب الأطراف، الكل لديه احتمال بأن الآخر ربما يصبح عينًا مزروعة بين المقاومة لصالح الإسرائيليين، جزء من تفاصيل صورة النضال، الأبطال الثلاثة رماديون لأنهم بشر، حيث تحرر المخرج من تلك الملامح المغرقة فى المثالية التى تحيط عادة التركيبة المرتبطة بشخصية الفدائى، كما أنه حرص أيضًا على أن يقدّم لنا البيت الفلسطينى بطقوسه وتفاصيله ليمهّد من خلال هذا الخط الاجتماعى إلى أن الصراع الدموى حتى بين الأبطال المناضلين ممكن، حيث تتحول القضية الشخصية إلى البؤرة ويصغر أمامها النضال الوطنى، وهكذا نرى فى نهاية الأمر أن الصراع يأخذ منحى أشد ضراوة وخطورة، حيث ينتهى بقتل أحدهم.
ويبقى أن المخرج سيطرت عليه فى بنائه للفيلم تلك الحالة الدرامية، أخذته الحكاية والخطوط الحادة، كان يريد أن يقدّم تفاصيل إنسانية، ولكنه وقع أسير الحكاية التقليدية، مثل أن الفتاة التى يحبّها البطل عُمر يدّعى صديقه أنه أقام معها علاقة جنسية وصارت حاملًا ثم نكتشف نحن المشاهدين قبل النهاية أنها مجرد خدعة لإبعاده وإلصاق تُهمة الخيانة به. وتنتهى الأحداث بطلقة ينهى بها عُمر حياة رجل المخابرات العسكرية المسؤول عن تلك القضية، وهو حل يؤكد أنه لا بديل عن الصراع المسلح، من الملامح التى كان فيها الإيحاء عميقًا هى أن البطل والذى وصفته أجهزة المخابرات الإسرائيلية بـ«سبايدر مان» الرجل العنكبوت، والذى كنا نشاهده مع اللقطات الأولى وهو ينتقل برشاقة بين الجانبين الأخضر والأحمر فى اللقطات الأخيرة يبدو أمامنا عاجزًا تمامًا عن التسلّق مجددًا إلى الجانب الآخر، حيث يعمل خبّازًا، ونرى رجلًا متقدمًا فى العمر بالزى التقليدى الفلسطينى، وهو يأخذ بخاطره ويحنو عليه، إنه الانكسار، إلا أن عمق المقاومة لا يزال أيضًا حاضرًا من خلال هذا التاريخ الذى أوحت به ملامح الشيخ الفلسطينى.
الجمهور الأوروبى فى أغلبه لا يتحمّس للمقاومة المسلحة التى ترفع السلاح ضد العدو، ولكنه فى نفس الوقت كان يرى مشاعر وتناقضات ومناضلين من لحم ودم وربما لهذا السبب فى نهاية عرض الفيلم داخل مسابقة «نظرة ما» كان له هذا النصيب الوافر من التصفيق!!