جاء عامل الصيانة أو «الباشمهندس كما يحب أن ينادوه» بعد ثلاث ساعات من موعده. أخذ الأسلاك وصعد إلى سطح المنزل منبها علينا ضرورة وجود نقطتى حراسة فى الشقة، واحد عند التليفزيون يتابع الشاشة أولا بأول، يشارك برأيه فى ما يراه، والثانى يقف عند السلم ينقل للباشمهندس تعليقات الأول الذى يقف أمام الشاشة.
يوم كامل نعلم أنه ضائع من حسابات عمرنا يأتى دائما فى بداية كل صيف استعدادا لدخول مرحلة جديدة من مراحل الإجازة، آملين فى أن نتمكن من مشاهدة القنوات جميعها بالألوان واقتناص بضع ساعات من القنوات المشفرة.
الشارع كله يعلم ما نحن مقدمون عليه، فصوتنا يملأ البيت والشارع كله «لا لا لا لسه بيوشّ.. النايل تى فى جات يا اسطيييى اثبتتتتتت.. رجععع يا عم مكان ما كننننت.. القناة راااحت.. ما حد يطلع يقف مع الأسطى بدل ما يقع من فوق ويجيب لنا مصيبة». هذا هو «يوم الإريال» أو «تظبيط الإريال» يوم ضائع فى سبيل أن نكمل باقى الأيام مع التليفزيون، وعلى الرغم من عدد القنوات المحدودة فى هذا الوقت فإنها كانت مؤثرة جدا فينا.
المشكلة الدائمة أن الباشمهندس كان يتعامل فى تلك الأيام «المفترجة بالنسبة إليه» بطريقة مختلفة تماما عن باقى الأيام، يتعالى على الجميع لا ينظر لأهل الشارع ولا يرد سلامهم، حتى فى نقاشاته كان يرى أنه صاحب الرأى الصواب، الأول والأخير ربما لأنه أصبح مع الوقت الوحيد فى المنطقة المسؤول عن الإريال «ملك الإرسال كما كانوا يطلقون عليه» وكان بإمكانه أن ينكد على أسرة كاملة برفضه تظبيط الإريال الخاص بها، فكان أغلب أهل الشارع يسيرون خلف رأيه يرون بعينيه ويتحدثون بلسانه. الجميع صامت لا يتحدث عن أى شىء فى حضرته، رغم معرفتهم جميعا أنه لا يملك فى حياة الإلكترونيات غير قليل من المجهود ولّا هو باشمهندس ولا حاجة. تعلم كلمتين عن الإرسال والاستقبال بيبُخهم فى وجه الجميع، إلا أن الشارع وأهله عشقوا منذ سنوات جملة من كلمتين «ريح دماغك».
مرت الأعوام ولم أنسَ أبدا تفاصيل يوم الإريال «رغم أن موضوع الإريال ده أصبح يحمل مع الوقت معانى أخرى لا يمكن كتابتها فى مقال» ولم أنسَ أبدا استعداد الباشمهندس للتحكم فى أهل الشارع بمجرد دخول الصيف «الموسم بتاعه»،
وكيف أصبح الإريال هو أداته للضغط على أهل الشارع. فقد كان قبله مستكينا متواضعا لا يحرك ساكنا فى المكان لا تسمع له صوتا، إذا طُلب منه عمل يجرى بسرعة لتنفيذه، لكنه تغير بمجرد أن أصبح مسؤولا عن تركيب الإريال.
حتى الآن لا أعرف لماذا كان -وما زال- يقفز أمام عينى مشهد تظبيط الإريال كلما مررت أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون «ماسبيرو»، فكثيرا ما كان خيالى يربط بين هذا المبنى العريق وإريال الشارع «ملك الإرسال». وبين الباشمهندس بتاعنا والقائمين على المبنى بكل ما يحمله من غموض وخراب «بسبب ما يعانيه من إهمال شديد»، تساءلت كثيرا عن سر الاهتمام به منذ أيام مبارك وحتى الآن «المجلس العسكرى لم يهتم بتأمين مكان أيام الثورة مثلما اهتم بتأمين المبنى، والإخوان لم يفكروا يوما فى التنازل عنه رغم فضائح وزيرهم المتكررة والسخنة زيه (فى العمل والإدارة ماتخليش دماغك تروح لبعيد)».
نعم.. ماسبيرو هو إريال الشارع بتاعنا الذى لم نكن نمتلك وقتها حق الاعتراض على آلية تشغيله، ولا على سياسات الباشمهندس المسؤول عن الإريال، لكننا الآن أصبحنا نمتلك هذا الحق.
حق الاستغناء عن الباشمهندس، أو على أقل تقدير المطالبة بتغييره اعتراضا على سياساته وفضائحه التى لا تنتهى، والمطالبة بباشمهندس آخر يشبهنا، مالوش غير فى الشغلانة، مش من بتوع «تعالى وأنا أقولك فين» ولا «ماسبيرو ونجيب ميرو».
الفارق بين أدائنا يوم تظبيط الإريال وأدائنا اليوم هو أننا لم يعد لدينا ذلك الحرص على استرضاء الباشمهندس، خوفا من أنه ينّكد علينا عيشتنا ويبوظ لنا الإجازة برفضه تركيب الإريال.
الفارق أيضا أننا لم نعد فى حاجة إلى مزيد من الصمت رغبة فى الاستمرار على أمل الاستقرار، تحت ذلك الشعار التاريخى القديم «ريّح دماغك».