صباح الفل يا صديقى.. الجميع يتحدثون ويكتبون باهتمام وإخلاص حقيقى عن مأساة الجنود المختطفين للدرجة التى لم يعد هناك معها ما يقال فى هذا الموضوع، انتهت الأفكار كلها بخصوص هيبة الدولة والمعارضة المفلسة والنظام المرتبك والجيش غير المفهوم والجنود الغلابة وسيناء التى أضعناها والثورة التى أربكتنا والنظام السابق الذى أفسد كل شىء لكنه كان يحافظ على سيناء ومهانة التفاوض وغباوة الهجوم المباشر ومصير الخاطفين وحياة المخطوفين وبالمرة عرج الزملاء على من عصروا الليمون ومن وقّعوا لـ«تمرد» ومن بكى على الهواء وغلاسة النخبة وأحزان الخبراء الاستراتيجيين وانهيار البورصة.
ما الذى بقى ليقوله الواحد فى هذا الموضع؟
بقى أن أقول لك اهرب يا أستاذ مليجى، سيضيع عمرك من فرط الاستسلام للتحليل والحكى فى المحكى، الأحداث تعيد نفسها بطريقة الكومبو (حدث + توك شو كبير + 120 مقالا تحليليا صغيرا)، وأنت تستسلم للوجبة حتى قاربت شرايينك على الانسداد، كن مهتما بما يجرى على أرض الوطن وافهم وحدد موقفك، لكن لا تفرط فى التنقل عبر وجهات النظر لأنك ستهلك تماما بمرور الوقت ما لم يكن لديك بلكونة جانبية تطل منها على مشهد آخر بخلاف المشهد الذى تطل عليه ليل نهار من البلكونة الرئيسية.
تابع ما يجرى لكن بمقدار.. وافصل.
تابع أفلاما تحكى عن نوع آخر من المشاعر قبل أن تصبح أحادى المشاعر تجاه ما يحدث من حولك، ستقول إن الأفلام كلها قديمة ومعادة ومن الصعب أن تستمتع بما أصبح فى طور المحفوظات، لكن صدقنى حتى الأفلام القديمة لا تزال فيها ما يستحق المتابعة ولا تزال تحتوى بعد كل هذه السنوات على مساحة للدهشة، بشرط أن تمتلك القدرة على اكتشاف البعد الثالث فيها.
هل لاحظت مثلا أن بطل الفيلم الذى تحبه الحارة كلها وتقدسه بسبب أخلاقه العالية هو فى الحقيقة «بيقرطس» أهل الحارة وبيزنق بنت الجيران فى بير السلم؟ (عيب يا محمد أفندى.. فيلم العزيمة)، هل لاحظت أن السيارات الأوتوماتيك ظهرت قبل السيارات المانويل بكثير (عمرك شوفت عماد حمدى بيدى غيار وهو سايق فى أى فيلم من أفلامه؟)، هل لاحظت أن كل معازيم عيد الميلاد فى كل الأفلام القديمة يقفون جميعا متزنقين فى صف واحد أمام التورتة (الصف المواجه للكاميرا) تاركين المنضدة كلها فاضية؟، هل لاحظت أن العلاج فى الأفلام القديمة أكثر فاعلية من العلاج حاليا، فبمجرد أن يبتلع البطل المريض الحباية تسأله البطلة كيف يشعر فيقول لها (بقيت أحسن الحمد الله) بينما الحباية لم تعبر حتى فوهة البلعوم؟، هل لاحظت أن «بوكسا» واحدا يوجهه البطل إلى فرد العصابة كفيل بأن يجعل العصبجى مغشيا عليه حتى نهاية المعركة، بينما طلقة نارية فى قلب البطل تمنحه فرصة لدقائق طويلة متيقظا منتبها مستجمعا قواه، بينما الدم ينزف منه ليخبرنا عن مكان الكنز أو اسم القاتل أو التوبة والاعتذار إلى كل من أساء إليهم؟، هل تذكر كم مرة ترجينا البطل واستحلفناه أن لا يمسك السكين عندما يدخل على القتيل والسكين مغروس فى قلبه؟ هل لاحظت أن كل أبطال السينما المصرية يتعاملون مع هذه السكين، وكأنها سكين كهربا لو رفعها القتيل هينوّر؟
هل لاحظت أن عادل إمام أصبح زعيم جيله، لأنه الوحيد بينهم الذى لم يترك للسوالف العملاقة العنان؟، هل لاحظت أن فيلم «حياة أو موت» لن يكون له لزوم إذا كانت صيدلية حسين رياض فيها ديليفرى؟، هل لاحظت أن عبد الحليم حافظ فى النصف الأول من معبودة الجماهير كان يحلم أن يصبح ممثلا كبيرا يشارك سهير مسرحياتها ثم فجأة وبدون أى مقدمات تحقق حلمه فأصبح مطربا تلف به الأرض؟، هل لاحظت فى معضلة حب إنجى وحب مصر أن إنجى تزوجت على وجلست تدعك له قدميه على سرير المستشفى رغم أنه من مشهدين بس كان لسه قاتل أخوها أحمد مظهر بطلقة فى قلبه؟ لنفهم جميعا أن عمى الحب نسبى بينما الأصل فيه هو الندالة.
الآن لديك طريقة لخلخلة ما استقر فى وجدانك على أنه حقائق وإجابات نهائية وأمور مسلّم بها، معك الطريقة فإن لم تنفع مع الأفلام ربما تنفع مع أشياء أخرى.