ساندوتشك فى شنطتك كراستك معاك ومطوتك فى جيبك هكذا كانت أم اللمبى عبلة كامل تتأكد من توفر كل عناصر السلامة لابنها محمد سعد قبل استعداده للنزول إلى الشارع، وفى مهرجان «كان» تستطيع أن تقول آى بادك فى إيدك ولابتوبك فى شنطتك وتليفونك فى جيبك إنه الثالوث الذى صار مقدسا لكل من يعمل فى هذه المهنة، فلا يمكن أن نتصور أن صحفيا يتخلى الآن عن واحد من الثلاثة، وعليك الآن أن تفتح عينك ولا تطمع فى أن تأكل ملبنا فقط، ستحمى نفسك من السرقة، هناك الحقيقة أكثر من تجربة للسطو على لابتوب أو محمول تكررت كثيرا، وكاتب هذه السطور تعرض قبل بضع سنوات لسرقة ليس فقط تليفون ولكن اثنين مرة واحدة، واحد خط مصرى والثانى فرنسى، ومنذ ذلك الحين وأنا دائما ما أتحسس فى كل لحظة جيبى لأتأكد أن التليفون لا يزال فى جيبى، نعم الشىء المشترك الوحيد بين مدينتى القاهرة و«كان» هو أننا صرنا نتعرض بضراوة للسرقة ولكن القاهرة تفوقت فى الأشهر الأخيرة بضراوة فى هذا الشأن.
لماذا يتكبد الزملاء الصحفيون والنقاد تلك المشقة ويتحملون المغامرة ويدفعون المبالغ الطائلة لمشاهدة أفلام المهرجان، أتذكر ناقدا مصريا كبيرا وهو الأستاذ كمال رمزى بعد أكثر من عشرين عاما ظل يحرص خلالها على رحلة «كان» قرر أن يتوقف قبل عشر سنوات عن الذهاب وعندما سأله أحد الزملاء عن الأسباب؟ قال لهم أغلى تذكرة فى السينما بعشرين جنيها، هكذا كان سعرها حتى مطلع عام 2000، ومهرجان «كان» أو أى مهرجان آخر كبير لن تجد أكثر من خمسة عشر قول عشرين فيلما تندم كثيرا لو لم تشاهدها فى حينها، وكانت وقتها الإقامة والتذكرة فى أصغر فندق تكلف 15 ألف جنيه ولو أضفت سعر الأكل والشاى والقهوة لأصبح المبلغ يقترب من 20 ألفا، معنى ذلك أن الفيلم الواحد يكلفك الدخول إليه ألف جنيه، فهل يوجد فى الدنيا فيلم يستحق أن تشاهده مقابل هذا «باكو» هكذا كنا نسمى الألف جنيه فى تلك السنوات، بالطبع لا يوجد، ولكن هل تدرك عزيزى القارئ أن هناك مرضا فنيا يسمى إدمانا حتى ولو كان للأشياء الحميدة مثل مشاهدة الأفلام، أى أنك تبحث عن تلك الجرعة السنوية كما أن طقوس المهرجان تصبح أشبه بمعالم خاصة لحياتك، وهناك بالفعل من استطاع أن يشفى بالعقل والمنطق من هذا الإدمان، بينما أنا لا أزال أنتظر الجرعة فى كل سنة. ورغم ذلك فإن مهرجان «كان» يظل هو المؤشر الذى تنتظره من عام إلى عام كل المهرجانات، خصوصا العربية، ولهذا تتعدد منصات المهرجانات العربية، من خلال الأجنحة المنتشرة فى السوق، ومهرجان القاهرة رغم كل شىء حريص على أن يحتل أى مساحة ولو صغيرة ولكنه موجود، كما أن عددا كبيرا من النجوم كانوا يحرصون على المجىء لحضور فاعلياته ومنهم هذا العام لبلبة التى لم تتوقف إلا فى القليل النادر عن الحضور، وهذا العام حرصت على المجىء للمهرجان، فى «كان» دائما تكتشف أن هناك تجديدا للدماء وسوف تجد فنانا يأتى لأول مرة مثل عمرو يوسف، ويبقى السؤال الأول هل تستحق مشاهدة تلك الأفلام كل تلك المشقة؟ شاهدت فيلما داخل قسم «نظرة ما» وهذا القسم يفتح الباب للتجارب التى تحمل فى عمقها تمردا ما على الشكل التقليدى ورغم أن هذا التوصيف غير دقيق على إطلاقه، ومن الممكن أن تجد فيلما يميل للتجريب فى «المسابقة الرسمية» بينما آخر يميل فى بنائه للتقليدية فى قسم «نظرة ما» فإن هذه هى السمة الغالبة مثل فيلم «الصورة المفقودة» الذى شاهدته من كامبوديا للمخرج «ريثى بانه».
«الصورة المفقودة «تروى تاريخا يقع ما بين عامى 75 و79 فى أثناء حرب الإبادة التى تعرض لها جزء أصيل من شعب كامبوديا، كانت هناك محاولات فى أثناء تلك الحرب لتوثيقها، ولكن اكتشف المخرج أن عوامل الزمن تدخلت وسحقتها تماما، مزج المخرج بين تلك الرؤية التى صورت فى زمن سابق بين التسجيلى والروائى، وهو ما يطلق عليه
«سيمى دراما» شبه درامى، مستعينا أيضا بالرسوم التى سجلها فنانون، ولكنها لم تكتمل، بل وبحكم الزمن وضآلة الخبرة فى التخزين ضاعت ملامح هذه الأشرطة تماما وتوارت تفاصيل تلك الرسوم، ولكن المخرج لم يكتف فقط بأن يحاول ترميمها، ولكنه كان يحرص على أن يعيد إليها أيضا نبض الحياة. الفنان دائما لا يقهره شىء والفن لا يزال هو القادر على التوثيق، وكما كتب القدماء المصريون التاريخ على أوراق البردى وحفروه على أعمدة المعابد فإن الشريط السينمائى وثق حياتنا، ولكن ماذا يفعل الفنان عندما يجد أن الأرشيف تم انتهاكه والصور ضاعت ملامحها، يستطيع الفنان أن يعيد إلينا هذه الحياة من خلال إضافاته الخاصة، لقد استطاع المخرج مجددا أن يقفز فوق كل العوائق وحفر العديد من الشخصيات على الخشب وأعادها إلينا مرة أخرى فى حالة ألق وإبداع لنسترجع كيف حدثت الإبادة لمن نطلق عليهم «الكامبوديون الحُمر» مثل الهنود الحُمر السكان الأصليين لأمريكا الذين تمت إبادتهم من الحياة، يمزج المخرج بين تلك الرسوم والمجسدات وأيضا الطبيعة لنرى كل هذا الألق والحضور الذى يطل علينا عبر الشاشة. شاهدت الفيلم الممتع ووجدت أنه يحظى بالقسط الأكبر من تصفيق الجمهور فى الصالة، أعتقد أنه لن يخلو الأمر من جائزة يوم السبت القادم، يوم إعلان جوائز قسم «نظرة ما» حيث إنها تسبق بأربع وعشرين ساعة إعلان جوائز «المسابقة الرسمية» مساء الأحد.
ويبقى أن بالمهرجان أحداثا أخرى هامشية لفتت الانتباه، بل سرقت الكاميرا من أفلام وأحداث المهرجان، تابعت أجهزة الإعلام كلها حادثة سرقة المجوهرات فى «كان» والتى تمت على طريقة فيلم «لصوص ولكن ظرفاء» بطولة أحمد مظهر وعادل إمام ومارى منيب، حيث إن اللصوص استأجروا حجرة فى الفندق الذى تعمد فريق الأمن أن يكون فندقا صغيرا ثلاثة نجوم، وذلك كنوع من التمويه حتى لا يشك أحد ولكن تسرب الخبر وتمت سرقة المجوهرات التى ترتديها النجمات على سبيل الإعارة ولكن اللصوص تمنكنوا وحتى كتابة هذه السطور من الاحتفاظ بها، واحدة أخرى هذا المواطن غير المتزن الذى أطلق رصاص طائش فى الهواء أثناء تصوير برنامج تليفزيونى لقناة فرنسية هذه المرة تم إلقاء القبض عليه. إنها تبدو مثل الشىء لزوم الشىء طالما هناك مهرجان «شىء» فإن هناك من يسرق الكاميرا «لزوم الشىء»! شاهدت قبل لحظات الفيلم الفلسطينى «عُمر» للمخرج هانى أبو أسعد الذى يمثل السينما العربية فى المهرجان داخل قسم «نظرة ما»، لن تندموا لو انتظرتمونى للغد نتناول هذا الفيلم!