قبل سنوات دعتنى فتاة برتغالية تدرس فى لندن إلى جامعتها لمشاهدة فيلم لكونتين تارانتينو. أسرعت إلى قراءة بعض المعلومات عنه لكى لا أظهر بمظهر الجاهل. واكتشفت أنه مخرج فيلم «Pulp Fiction»، الذى شاهدته من قبل، والذى أسمع أصدقائى يمدحونه فأسايرهم فى مدحه، لأنه يبدو أن محبى السينما لا بد أن يحبوا تارانتينو. كما أننى شاهدت «Kill Bill» وقشطة يعنى، شغال.
وظل تارانتينو بعدها بعيدا عن دائرة مخرجىّ المفضلين. كان الشر بالنسبة إلىّ واضحا، والخير واضحا. وأفلام تارانتينو مغرقة فى الدماء، ولها رسائل بصرية وموسيقية تحتاج لإدراكها إلى تركيز من محب، ليس مشغولا بالفتاة التى إلى جواره. كما أننى لم أدرك الفارق الكبير بين ما يقال فى الكتب، والسينما كفنّ مستقل بذاته، أدواته مختلفة تماما، ومعاييره الجمالية حاجة تانى خالص مالص.
ذهبت إذن إلى الفيلم وليس فى بالى الفيلم. كانت الفتاة -على العادة البرتغالية- خليطا بين الجمال الأوروبى والجمال الإسبانى. وشاهدت الفيلم معها. ثم تحدثت معها عنه بعدها. ولم أرها فى حياتى مرة أخرى. الآن فقط عرفت السبب.
قبل أسابيع أهدانى صديقى حاتم منصور مجموعة من الأفلام فيها فيلم تاراتنتيو «Django Unchained» أو «يانجو مفكوكَ القيد»، الذى صدر العام الماضى.
تارانتينو فيلسوف آخر من فلاسفة السينما. اختار، مثل مارتن سكورسيزى، أن يكون عالمه السينمائى قريبا من عالم الجريمة، عالم «الشر». وليس هذا اختيارا سهلا. لأنه عالم لا يعيشه كثير منا. ولأنه عالم من المشاعر المعقدة، التى قد لا تجدين فيها نفسك بسهولة، بل بسهولة تجدين ألف سبب لكى تكرهيه، وتكرهى أبطاله، وتكرهى مشاهده. على الأقل بسبب كمية الدم، والجريمة. قيمنا المعتادة ستقول لك: لا تربطى نفسك بهذا، هذا عالم آخر، عالم الأشرار.
ها ها ها ها.
تارانتينو -فيلسوفا- يعيد صياغة فكرة الشر والخير من أساسها. الشر الجيد النافع فى مقابل الشر السيئ الضار. الشر كعالم مواز لـ«الخير»، وعلى قدم المساواة معه أخلاقيا. لكنه يتفوق عليه نوعيا، لأنه أكثر كفاءة وتشويقا. أوبس. مشاعرك الرقيقة لا تحتمل، أنا عارف.
طيب. بنعمل إيه نحن «الأخيار» فى الدنيا؟! بنقدم إيه للبشرية؟! عظيم. كل الحاجات اللى جات على بالك دى حلوة. خطوات ضيقة فى طريقة الفائدة الكونية. لكنها مهمة طبعا. طبعا.
ولكن. دققى كده جوه مجتمع «الأخيار» وشوفى كم الضرر اللى بيقدمه للبشرية. شوفى كمية «تعصب الأخيار»، شوفى كمية «الأحكام المسبقة» اللى بيروجها الأخيار. شوفى كمية الحقد والغل والكره اللى بينشرها «قادة الأخيار»، مواطن الثقة وأهل الاحترام. وبعد كده شوفى كمية «الفشل» اللى بيقدمه الأخيار، حتى فى الجريمة، بمعنى أنهم يرتكبون جرائم سخيفة وثقيلة وتستهدف الضعفاء، وفى نفس الوقت تحمل من الدموية ما تخجل عنه أفلام تارانتينو نفسه. فيها قتل لجيران بلا هدف ولا مكسب إلا إرضاء شهوة فى إزاحة «المختلفين» عن وجه الأرض.
وهنا نعود إلى فيلم تارانتينو موضوع المقال «Django Unchained» هو أيضا يقدم عالما من الجرائم اللا إنسانية فى صفوف تجارة العبيد، إزاحة المختلفين فى اللون، لكنه يقدم نموذجا لا تقليديا يقف أمامه. من؟ أحد متعقبى «مكافآت الرؤوس»، الذين يقتلون الهاربين من أحكام ويبيعون جثثهم مقابل المكافأة المحددة على الرأس. هذه إشارة بسيطة بحجم المقال. لكن بإمكانك أن تتخيلى المنظومة القيمية التى تظهر فى الحوار داخل الفيلم. والخيارات الأخلاقية التى تضعها المواقف أمام أعيننا. لتعيد تعريف الأخلاق: لا شر ولا خير. هناك «شر» جيد و«شر» ردىء. و«خير» جيد، و«خير» ردىء.
لمحة: اسألى نفسك أين يقف «المتدينون»، أهل الخير، من موضوع العنصرية والعبودية؟ فكرة: اسألى نفسك لماذا يفشل السياسيون المصريون؟ لأنهم لا يملكون من يجيد أخلاق الصراع. ولأنهم ينحنون أمام «قبح» الأخيار. يا صديقتى إننا نحتاج إلى بعض «الشر الجيد النافع». نحتاج إلى أمثال تارانتينو. هيه. إزيك بَجَى؟!