من أكثر القضايا والموضوعات المثارة فى الموازنة العامة للدولة، وفى المجتمع المصرى منذ سنوات بعيدة قضية «الدعم»، التى أخذت منحى أكثر خطورة منذ عام 2005/2006، حينما أدرج فيها لأول مرة فى تاريخ الموازنة العامة المصرية ما يسمى «دعم المشتقات البترولية» والبالغة فى ذلك العام 41.0 مليار جنيه، فقفزت مخصصات الدعم فجأة من 19.0 مليار جنيه فى العام المالى السابق 2004/2005 إلى 60 مليار جنيه دفعة واحدة.
ثم أخذت الأرقام المدرجة فى الموازنة العامة للدولة تزداد بوتيرة سريعة وغير مفهومة لدى الرأى العام، والمصيبة لدى كثير ممن يوصفون بأنهم باحثون اقتصاديون - فوصلت إلى 99.6 مليار جنيه للمشتقات البترولية والطاقة فقط فى الموازنة الجديدة لعام 2013/2014. وإذا أضفنا إليها بقية الأنواع الأخرى من الدعم كالسلع التموينية وفروق أسعار الفائدة والمصدرين وغيرها، فإن الرقم الإجمالى للدعم سوف يتجاوز 160.1 مليار جنيه، وفى حال إضافة بقية المنح والمزايا الاجتماعية مثل دعم نظم المعاشات والتقاعد بما فيها صناديق معاشات القوات المسلحة والشرطة، لأن الرقم سوف يزيد على 205.5 مليار جنيه.
والسؤال الذى أطرحه منذ عدة سنوات - حينما اكتشفت اللعبة المحاسبية التى قام بها يوسف بطرس غالى وحكومة أحمد نظيف منذ عام 2005/2006 - ولم يجرؤ أحد من المسؤولين على رده أو دحضه أو نكرانه، هو:
هل هذا الرقم حقيقى؟
الإجابة القاطعة الحاسمة والعلمية هو أن هذا الرقم يتضمن خداعا محاسبياً، ودعما افتراضيا لمعظم المشتقات البترولية التى ننتج معظمها محليا.
والحقيقة أن التعريف العلمى للدعم هو (تكاليف إنتاج سلعة أو خدمة محملة بهامش ربح مقبول وبين سعر بيعها للجمهور). هذا هو التعريف العلمى الدقيق للدعم ودونه هو تحايل مالى ومحاسبى لا يجوز.
على أى حال، حتى يتبين الحقيقة، انظروا معى إلى هذا الجدول الذى يتضمن ما يسمى دعم المشتقات البترولية فى مشروع الموازنة العامة الجديدة لعام 2013/2014 وسوف نكتشف ما جرى:
إذا تأملنا هذه الأرقام نكتشف مقدار ومناط المغالطة المالية والمحاسبية من عدة زوايا:
الأولى: أن هذه القيم هى قيم الإنتاج المحلى والمستورد معا والقيمة بالأسعار العالمية السائدة لهذه المشتقات البترولية، وبالتالى هناك خلط بين تكاليف إنتاج المنتج المحلى كالسولار والبوتاجاز والبنزين والمازوت وبين تكاليف توريد المماثل لها (المستورد) من الخارج.
الثانية: أن ما ننتجه من السولار محلياً يعادل 63% من احتياجاتنا، وتكاليف إنتاجه لا تزيد على جنيه واحد للتر من السولار بينما يجرى بيعه بحوالى 1.4 جنيه للتر، ومن ثم فإنه ليس هناك دعم حقيقى لهذا المنتج . ويبقى أننا نستورد حوالى 37% من الخارج وهو ما يكلفنا أزيد قليلا من تكاليف المنتج المحلى، ومن هنا فإن القول بأن دعم السولار يعادل 40.0 مليار جنيه هو تلاعب محاسبى لا يجوز أن تقوم به دولة وحكومة تحترم مواطنيها .
الثالثة: بالنسبة لأنبوبة البوتاجاز فنحن ننتج محليا حوالى 50% من احتياجاتنا والباقى نستورده من الخارج، وهنا نتحدى الوزراء - التموين والبترول - الذين يصدعوننا كل يوم بأن تكاليف إنتاج أنبوبة البوتاجاز تعادل 63.0 جنيه تباع الآن بحوالى ثمانية جنيهات، ونطالبهم بأن يعلنوا بوضوح التكاليف الفعلية لإنتاج أنبوبة البوتاجاز المحلية وهى لن تزيد أبدا عن ثمانية جنيهات، والباقى المستورد يكلفنا أكثر إلى حد ما، والسبب سوء إدارة قطاع البترول كما سوف نشرح بعد قليل.
الرابعة: بالنسبة للبنزين فنحن ننتج حوالى 60% من احتياجاتنا محليا، وهى لا تتكلف هذا الرقم الضخم المعلن عنه، ويجرى هنا التلاعب باحتساب الكمية كلها وكأنها مستوردة من الخارج، والهدف بالطبع رفع أسعار المنتج المحلى إلى مثيله عالميا .
الخامسة: الحقيقة التى تسجلها كل البيانات الرسمية والحكومية بشأن وارداتنا من المشتقات البترولية لعام 2012/2013 لم تزد على 6.0 مليارات دولار، أى ما يعادل 42.0 مليار جنيه مصرى، يتم بيعها فى السوق المحلية بحوالى 7.0 مليارات جنيه تقريبا، وبالتالى يصبح الدعم الحقيقى الذى تتكلفه الخزانة العامة حوالى 35.0 مليار جنيه فقط لا غير .
السادسة: بسبب سوء إدارة قطاع البترول الذى احتلته عصابات من المرتشين، فقد كان يجرى توريد الغاز الطبيعى للدول الأجنبية بأقل من 3.0 دولار للمليون وحدة حرارية B.T.U وهى وحدة القياس المعمول بها دولياً، وعندما حدث نقص فى الغاز المورد لمحطات الكهرباء المصرية اضطررنا لاستيراد المازوت لمحطات الكهرباء فبلغ سعرها علينا حوالى 12.0 دولار للمليون وحدة حرارية!!
السابعة: لو جرى إعادة هيكلة قطاع البترول وسياسات تشغيله سوف يوفر علينا الكثير من هذه المشتقات من خلال التوسع فى البحث والتنقيب مع الشركات الصينية والماليزية والروسية بديلا عن الشركات الاستعمارية البريطانية والأمريكية والهولندية، ومن ناحية أخرى لو جرى التوسع فى الاستثمار فى معامل التكرير سوف تنخفض وارداتنا من الخارج، وكذلك لو أخذت الحكومة المصرية بآرائنا منذ 25 يناير بإعادة فتح باب التفاوض مع شركائنا فى الغاز الطبيعى والبترول لإعادة اقتسام الحصص، وإعادة النظر فى بند استرداد التكاليف وطريقة حسابه الإجرامية والمهدرة للثروات والأموال المصرية، لوصلنا إلى اتفاقات توفر لنا ما بين ثلاثة إلى خمسة مليارات دولار سنويا .
الثامنة: أدى إهمال قطاع الثروة المعدنية، وإلحاقه قسرا لقطاع البترول تارة وقطاع الصناعة تارة إلى ضياع ثروة حقيقية على الاقتصاد المصرى لا تقل وفقا لأدنى التقديرات عن عشرة مليارات جنيه مصرى سنويا، لقد ترك هذا القطاع لتتحكم فيه «مافيا» شديدة البأس والقوة تشارك فيها مسؤولون بالمحافظات ووزارة البترول ومجموعة من المقاولين المغامرين حققوا من ورائه أرباحا طائلة على مدى عقود الفساد الماضية .
ويستسهل المسؤولين منذ ما قبل الثورة وحتى اليوم الحل الضار والمتمثل برفع أسعار هذه المشتقات البترولية ومصادر الطاقة (كالكهرباء)، وهو ما سيؤدى إلى أضرار يصعب السيطرة عليها فى الأسواق المصرية، خاصة أن المصانع الأربعين كثيفة استخدام الطاقة (كالأسمنت والحديد والأسمدة والألومونيوم وغيرها) تدخل منتجاتها فى الكثير من المنتجات والسلع، ومن ثم فإن رجل الدولة وصانع السياسة الاقتصادية الذكى، عليه أن يضع خيارات متعددة ولا يحصر نفسه فى خيار وحيد، وهنا فإن طرحى يختلف ويتحدد فى محورين:
الخيار الأول: أن يجرى تقديم المشتقات البترولية المحلية ومصادر الطاقة لهذه المصانع بأسعار مناسبة (تكاليف إنتاجها الفعلية محملة بهامش معقول من الربح)، وكذلك المشتقات المستوردة بأسعارها الفعلية، مقابل الاتفاق مع هذه الشركات على بيع منتجاتها فى السوق المصرية بأسعار لا تزيد هوامش أرباحها عن 40%، ويتميز هذا الخيار بالتحكم فى الأسواق والأسعار المحلية فى جميع القطاعات التى تدخل منتجات هذه المصانع فيها.
الخيار الثانى: أن تقدم إليها المشتقات البترولية والكهرباء بأسعارها العالمية، مع التحوط بشأن مخاطر ذلك على هياكل الأسواق والأسعار فى الداخل ومدى قدرة الحكومة المصرية على حماية المواطنين من لهيب الأسعار المتوقع.
هكذا يفكر رجال الدولة وليس هواة المناصب والرجال الصغار وللحديث بقية.
* الخبير فى الشؤون الاقتصادية والاستراتيجية