ليلة عاش فيها المهرجان تحت سطوة الأمطار
المخرجة روبيكا زلوتسكى قدمت وجهًا آخر للطبيعة عندما يعتدى عليها الإنسان بالطاقة النووية
لو ألقيت نظرة عين الطائر على مدينة «كان» بزاوية رؤية من أعلى، أول من أمس، سوف تكتشف أن الكل صار يمسك بمظلة تعلو فوق الرؤوس، آلاف من المظلات متعددة الألوان والأحجام وأيضًا الأثمان تواجه بإباء وشمم هطول الأمطار التى لم تنقطع منذ الصباح الباكر وحتى فجر أمس، حيث أكتب هذه الكلمة، وبقدر ما كانت الطبيعة قاسية على رواد المهرجان، كانت أيضًا رحيمة بالتجار الذين ينتشرون فى جنبات المدينة، خصوصًا فى الطرق المؤدية إلى قصر المهرجان، إنه سوق أخرى للاتجار، تمارسه هذه المدينة الصغيرة المطلة على واحد من أجمل شواطئ الدنيا «الريفييرا»، وتشعرك أنها تولد فقط خلال أسبوعَى المهرجان، فتتضاعف الأسعار، أما بائعو المظلات وأغلبهم من الأفارقة السود، فإنهم رفعوا سعر المظلة الصينى المتواضعة إلى عشرة يورو، بينما سعرها الحقيقى فى المحل لا يتجاوز اثنين فقط، وجه واحد فقط يشرح لك كيف يستغل الإنسان أخاه الإنسان، حتى فى أحلك الظروف، إنها ظاهرة طبيعية تتكرر سنويًّا، حيث تعايشنا معها، ولكنها تتوقف فى لحظات لتشرق الشمس من جديد وترى فى لحظة واحدة فصول السماء الأربعة، ولكنها هذه المرة امتدت فترة زمنية أبعد، وظللنا نترقّب أشعة الشمس التى تركت الفرصة مهيّأة لكى يزداد ارتفاع منسوب الماء التى تسد الطرق المؤدية إلى أبواب عروض المهرجان، وهكذا قالت الطبيعة كلمتها.
الغريب أنه فى نفس اللحظة كان يُعرض الفيلم الفرنسى داخل قسم نظرة ما وهو يلى فى الأهمية المسابقة الرسمية عنوان الفيلم «السنترال الكبير» للمخرجة روبيكا زلوتسكى، ليقدّم وجهًا آخر للطبيعة، وذلك عندما يعتدى عليها الإنسان من خلال معامل الطاقة النووية التى تمنح لمن يعمل بها مبالغ ضخمة، ولكنها تضع على المقابل حياته على المحك، بطل الفيلم شاب ليس لديه أى مقومات سوى شبابه ولياقته الجسدية ورغبته الملحة فى الحصول على أموال، الفيلم بطولة الممثل الإيرانى طاهر رحيم، الذى لعب بطولة فيلم «الماضى» المشارك فى المسابقة الرسمية، والذى تناولناه فى مقال أمس، طموح هذا الشاب يدفعه إلى أن يقبل العمل فى معمل استخراج الطاقة النووية، وفى بداية الأحداث نرى هذا الشاب وقد تمت سرقة أمواله فى القطار، ولكنه يستعيدها فى لحظات، بعد سلسلة من الأعمال التى تدر أموالًا لا ترضى طموحه يلتحق بالمعمل، ونتعرّف على هذا العالم الذى يبدو فيه أن الموت يطل على الجميع فنرى اللهاث الجنسى أحد عوامل المقاومة التى يلجأ إليها الجميع ولا تدرى هل هو اندفاع للحفاظ على البقاء، ولهذا لا تجد سوى عوامل الفناء كلما أطلت على المشهد سوى أنهم يقيمون ساترًا من المقاومة عبر جنس محموم لا ينتقى الطرف الآخر بالضرورة عن قناعة أو حب، ولكن فقط رغبة دفينة للدفاع عن حقّهم فى الحياة، الفيلم ينتقل بعد ذلك إلى طقوس العمل داخل المعمل والكشف الدورى الذى يخضع له الجميع ولا يسلم البطل من مخاطر الإشعاع، وتنتهى الأحداث بأصوات الإنذار المتقطعة، ونعلم أنها عندما تصل إلى رقم سبعة، فهذا يعنى أن الخطر قادم لا محالة ونسمع الصوت السابع مع تترات النهاية، وكأنه إنذار لـ7 مليارات مواطن يعيشون على الأرض يأتى من هذا السنترال الذى يبدو وكأنه يتسع لكل العالم، قالها يوسف بك وهبى فى العديد من مسرحياته «وما الدنيا إلا مسرح كبير»، ولكنها صارت «سنترال كبير».
****
أما فى المسابقة الرسمية فلقد عرض الفيلم اليابانى «مثل أب مثل ابن» للمخرج كورى إيدهيركوزو، القصة التقليدية، الأب الذى يكتشف فجأة أن ابنه ليس ابنه وكأنه يستعيد التساؤل التقليدى الذى طالما قدّمته السينما المصرية، الأب والأم هل هما مَن ينجب أم يربّى، الإحساس بالأبوة والأمومة هل هو خاضع فقط لتحليل الـ«دى إن إيه» أم أن المشاعر تكبر وتنمو بعيدًا عن تلك الشفرة الجينية، وعلى طريقة ميلودراما حسن الإمام التى قدّمها فى العديد من أفلامه، تكتشف الأسرتان بعد ست سنوات أن هناك خطأ تم فى استلام الأطفال، العائلة الفقيرة كان من نصيبها ابن الأثرياء والعكس، وفى الأحداث يصبح الأهم وهو تلك اللحظة المصيرية التى نجد فيها أن كلًّا من الطفلين عليه أن ينتقل للعيش مع أسرته الحقيقية طبقًا للتحليل الجينى، بينما الأب الثرى يريد أن يجمع بين الطفلين، فهو برأسماله يستطيع الإنفاق عليهما ويتصوّر أنها قسمة عادلة، فهو يريد الابن الذى ربّاه والابن الذى ينتمى إليه بالدماء، كل من الأسرتين فى نهاية المشوار ينتهى إلى أن الابن القادم من بيئة مغايرة يقدّم لها شيئًا جديدًا على حياتها، الابن الفقير الذى صار من أبناء الأثرياء يقدم لهذه الأسرة الغنية حالة البهجة التى كان والده الفقير يشيعها فى جنبات البيت بينما الانضباط فى الطقوس المحافظة التى تميّزت بها العائلة الأرستقراطية، هو ما يعلّمه الطفل للعائلة الفقيرة التى تتكون أيضًا من ابنين آخرين، ست سنوات هى عمر الطفلين اللذين تشكّلا نفسيًّا، وهى لا تكفى لكى يدرك كل منهما ما الذى يعنيه تحليل الحمض النووى، ولكنهما صارا يدركان أن كل منهما سوف ينتقل إلى بيئة وعائلة أخرى بينما حنينه يدفعه للتمسك بعائلته القديمة، الفيلم يسهب كثيرًا فى الانتقال بين العالمين وتأتى اللقطة الأخيرة وكلتا الأسرتين تجتمعان عند نفس النقطة ونفس اللقطة، وهكذا يتم التجاوز عن هذا العالم المتناقض بتلك الحميمية بين العائلتين. كان ينبغى للمخرج اليابانى كورى إيدهيركوزو، أن يختصر على الأقل نصف ساعة من فيلمه، حيث كانت المشاهد تتكرر ولا تضيف شيئًا سوى الملل، أعتقد أن هذا الفيلم سيحتل المرتبة الأخيرة فى الترتيب الذى تجريه ثلاث مجلات ترصد أفلام المهرجان سنويًّا.
****
وتبقى ملاحظات سريعة فى فيلم «غريب فى البحيرة» الذى عُرض فى قسم «نظرة ما»، إذ حرص النجم الفرنسى الكبير ميشيل بيكولى، على الحضور بين المتفرجين وحصل على قسط وافر من التصفيق، فهو أيقونة فرنسية، عندما قدّم مخرج الفيلم فى حوار قصير الأبطال للجمهور لم تتم الترجمة إلى الإنجليزية لو فعلها أى مهرجان مصرى ولم يترجم لقاء من العربية إلى الإنجليزية لاعتبرها البعض سقطة لا تغتفر، ولكنهم غفروها للمهرجان العريق.
المخرجة ماريان خورى توجد بين كواليس المهرجان لاختيار الأفلام التى سوف تعرضها فى مهرجان الفيلم الأوروبى الذى تمتد فاعلياته من 2 أكتوبر حتى 10 أكتوبر، سوف تتم العروض هذه المرة فى أربع دور شاشات موزعة على القاهرة.
غدًا، يقيم الجناح المصرى الذى يتصدره شعار مهرجان القاهرة وتحملت تكاليفه للعام الثانى على التوالى وزارة السياحة، حفل استقبال وإعلان عن الدورة القادمة للمهرجان، ولا يزال الغموض يحيط حتى الآن مصير المكتب التنفيذى، لم يعرف أحد بعد ما الخطة التى وضعها الوزير الجديد، ولكن سهير عبد القادر المشرفة على الجنا،يبدو أنها حريصة على أن تقاوم حتى آخر نفس!!