تحدثنا عن الهُويَّة المصرية وجريمة محفل الإرشاد وطائفة الإخوان فى محاولاتهم المستميتة لتغيير هذه الهُويَّة، لا لأنها ضد بروتوكولات المحفل وتعاليمه الصارمة المغلقة فقط، بل لأن المحفل وكل من اقترب منه وانتسب إليه من أفراد الطائفة يحتقر مصر أصلا، ويرى أن المصريين كائنات كافرة. إذن، هى فكرة الاحتقار والعنصرية التى تسمح باستخلاف الآلهة ومن ثم استعباد البشر.. عموما الحرب بين الأقلية الإخوانية وملايين المصريين ليست حربا دينية أو طائفية، فالعرب احتلوا إسبانيا وزعموا أنهم ينشرون دينهم، والأتراك تحت راية الإسلام ارتكبوا مجازر ما أنزل الله بها من سلطان لا تزال آثارها قائمة إلى الآن.. فماذا حدث؟! حدث أن عادت المياه إلى مجاريها، وظلت إسبانيا هى إسبانيا، وبقيت اليونان والمجر كما هى.. كل ما هنالك أن المسار التاريخى تَخلَّف قليلا... وبالتالى لا خوف على هُويَّة مصر!
تحدثنا أيضا عن تحسين صورة الإخوان فى الخارج، وعن السماسرة والممولين والمستفيدين: سماسرة إقليميين صغار ولكن أغنياء، وآخرين تُجَّار حرب ودماء كبار ومستفيدين.. ولكن الخارج ليس كله واحدا.. وإلى الآن فشل محفل الإرشاد فى تسويق صورته، فاتجه مباشرة إلى رعايا الخارج فى الداخل المصرى من سائحين ورجال أعمال وطلاب أجانب...
لن أذكر مكان الحادثة لكى لا يعتبر البعض ذلك دعاية أو ترويجًا.. ولكنه مكان مثالى على أرض مصر، تم تنظيمه ببراعة وخبرة ورغبة فى العطاء والحصول أيضا على مكاسب وأرباح: لا مكان للطوائف والديانات أو حتى الحديث فى هذه الموضوعات المنحطَّة، لا مجال لمخالفة القانون أو تشويه المظهر العام... وفى نهاية المطاف، المايوه هو ملابس مناسبة للبحر والسباحة.. واللقاءات الرسمية تتطلب ثيابا رسمية مثل البدل والفساتين ذات الطابع الرسمى، بينما الصلاة تتطلب ملابس من نوع خاص يتناسب والطقس الذى يرغب المواطن ممارسته.
فى العام الماضى، قرر أحد رواد المكان أن يجرب إنزال زوجته المنتقبة وأمه المحجبة حمام السباحة مع رواد أجانب ومصريين وأطفالهم. ولكن مديرى المكان تصرفوا بأدب شديد وحكمة وتحدثوا معه بهدوء واحترام. حاولوا إقناعه بأن قوانين المكان لا تسمح بذلك، وأنهم لا يطردونه أو يصادرون حقه. ولكنه أعلن عن غضبه بصوت عالٍ وفجاجة، ثم غادر المكان فى استعراض لا يمكن وصفه إلا بقلة الأدب. فى كل الأحوال، لم يتعاطف معه أحد لا من الأجانب ولا من المصريين!
فى هذا العام، فوجئتُ بثلاث سيدات: واحدة منقبة، واثنتين محجبتين، ومعهن عدد ضخم من الأطفال، يجلسن على حمام السباحة. وفى الحمام نفسه رأيتُ شابين يرتدى كل منهما شورتًا «شرعيًّا» و«تى شيرتًا». كان جميع مَن فى حمام السباحة بملابس البحر العادية والطبيعية. ولكن الشابين كانا يستعرضان عضلاتهما المفتولة أمام رواد المكان ويتحدثان بصوت عالٍ وهما ينظران بجوع واستخفاف إلى كل الموجودين (أو بالأحرى الموجودات). بعد قليل عرفت أن أحدهما هو زوج المنقبة، والثانى خطيب إحدى الفتاتين المحجبتين.
جرى حديث بين الفتيات الثلاث وعدد من السائحات الألمانيات. كان حديثا بالإشارات فقط، لأن زوج المنقبة ضحك بصوت عالٍ للغاية وهتف من داخل حمام السباحة: «إنتو بتتفاهموا معاهم إزاى؟ هو انتوا بتعرفوا انجليزى؟»، وراح يرطن بعدة كلمات من كتاب سنة أولى إعدادى. قالت إحدى المحجبتين بصوت عالٍ موجهة حديثها إلى الزوج: «إحنا بنتفاهم بلغة الإشارات، وهم مستغربين قوى وبيسألوا مين المسلمة فينا ومين اللى مش مسلمة، المنقبة ولا المحجبة!»، ضحك الشاب ضحكة عالية وقال مكررا عدة مرات: «لا، مراتى هى اللى مسلمة.. هى اللى مسلمة والله»، وتعالت ضحكات الفتيات الثلاث، بينما السائحات كُنَّ ينظرن بابتسامات مندهشة إليهن وإلى الرجلين والأطفال.
وبدأت السائحات الألمانيات يأخذن بعض الصور مع المنقبة والمحجبتين. صور كثيرة للغاية، ثم تبادلن أرقام الهواتف.. كان كل ذلك يجرى بصوت عالٍ جدا وبصورة استعراضية لدرجة أن من لم يغادر المكان امتعاضا من التلوث السمعى والبصرى وربما التلوث أيضا من نزول حمام السباحة بـ«تى شيرت»، كان مُجبَرا على الاستماع إلى ما يدور فى حال احترم نفسه والآخرين وحوَّل بصره عما يجرى.. واستمر المشهد نحو ساعة كاملة، انضمّ إليه الشابان فى ربعها الأخير.
المكان المثالى لم يفقد طابعه، لأن الفتيات لم ينزلن حمامات السباحة، ولكن الشابين نزلا وهما يرتديان «تى شيرتات» قد تكون فقدت لونها فى مياه الحمام بسبب الكلور! المكان لم يفقد طابعه ولكنه يتلوث! والمسألة تجرى فى هدوء وبالتدريج، والمحفل وطائفته لا يهتمان كثيرا بالمصريين أو بآرائهم، لأنهما يعرفان أنه من الصعب أن «تبيع المية فى حارة السقايين»، وأن «مبروم على مبروم مبيركبش».. فهل هى معركة حضارة، أم هُويَّة، أم دين؟ هل هى معركة مصالح وأموال ضخمة ومشاريع وأسلحة، أم فرض سلطة متخلفة ومتلحفة بالبروتوكولات الطائفية والعنصرية، أم كل ذلك معا؟