عامان وبضعة أشهر على أزمة الشرطة المصرية دون بصيص من ضوء فى نهاية النفق المظلم، بل على العكس تماما، صارت الأزمة أكثر خطورة، والعتمة أشد حلاكة، لأن الأوضاع الخارجة على القانون استقرت وسكنت واستوطنت جنبات المجتمع وفرضت الأمر الواقع عليه فى كل مكان تقريبا، والأخطر أنها تمثل تحريضا إضافيا لكسر هيبة الدولة والقانون، وما خطف الجنود السبعة سوى دليل مهين جديد!!
وهذه مصيبة كبرى، فقد نتحمل أزمة مؤسسة الأمن أسابيع أو بضعة أشهر، لكن أن تدوم أكثر من سنتين ولا يلوح فى الأفق ما يشى بأنها مقبلة على الطريق الصحيح، فهذا يعنى أننا نتحول إلى غابة بلا مستقبل، والكلام عن الاستثمار والتنمية والعمل والسياحة هو نوع من الضحك على الذقون، وجزء من الفشل العام الذى نتخبط فيه بقيادة الجماعة الحاكمة!
وقد لعبت الجماعة دورا فى هدم جهاز الشرطة، التى كانت تعتبره «العدو الأعظم» لها، وحين وصلت إلى الحكم لم يكن هدفها إصلاح الخلل الذى وقع، وعلاج المرض الذى استشرى، وإنما السيطرة على الجهاز وتشكيله على هواها ووفق مصالحها، وإن ظل الخلل وتكاثرت العيوب القديمة.. وهذا سبب جوهرى فى تفاقم الأزمة واستفحالها.
والشرطة بطبيعتها وتاريخها مؤسسة معقدة ومحيرة فى المجتمع المصرى، تتجسد فيها كل مثالب الشخصية المصرية والتقاليد المصرية فى ممارسة السلطة، والمدهش أن المصريين ينسون أمرا شديد الوضوح وهو أن رجال الشرطة ليسوا غزاة أو أجانب أو كائنات فضائية هبطت علينا من كوكب آخر، وإنما هم منا وعلينا، أبناؤنا وأقاربنا وجيراننا، هم مصريون مثلنا تماما، فلماذا هذه الجفوة والمسافة النفسية التى ترسم لهم صورة شيطانية فى أذهاننا، تُخيفنا من دخول أى قسم شرطة، ونقول دائما «ابعد عن الشر وغنِّى له»!
مؤكدٌ أن ثمة أزمة قديمة متوارثة فى أسلوب تعامل الشرطة مع مواطنيها، خصوصا فى السنوات الثلاثين الأخيرة، التى تعاظم فيها أمن الدولة على أمن المواطن، والأمن السياسى على الأمن الجنائى.
وقطعا ينظر مفهوم أمن الدولة والأمن السياسى إلى المواطن باعتباره خطرا محتمَلا ليس له حقوق وعليه الالتزام بالمشى جانب الحائط، وتنقلب حمايته من واجب مصون بالدستور والقانون إلى «حسب التساهيل» وما تسمح به الظروف والإمكانات.. ويسمح بتوغل الأمن فى كل مؤسسات الدولة وأنشطتها. وهى أدوار لاقت هوى فى النفوس، لأنها وسعت من سلطاتهم ونفوذهم الطاغى.
وهذا لا يعنى أن الشرطة فى كل قطاعاتها كانت كذلك، فهذا تعميم سخيف وغير صحيح بالمرة، نحن هنا نتحدث عن مفاهيم، فالشرطة فيها رجال ضحّوا بأرواحهم من أجل مواطنيهم، ورجال ماتوا من التعب والجرى وراء تأمين الناس.
لكن غلبة الدولة على المواطن فرضت دائما سياستها على المجتمع كله، وأنهكت رجال الشرطة فى أعمال كثيرة ما بين حراسات خاصة لكبار للشخصيات، وتأمين مواكب، وخدمات أمنية إلى جانب عملهم فى البحث الجنائى أو القطاع الذى يعملون فيه!
إجهاد عصبى ونفسى كان يلقى بثقله العنيف على رد فعل جهاز الشرطة حين يعود إلى علمه الطبيعى فى خدمة أمن المواطن.
ناهيك بأن ثمة عيبا خطيرا يصيب تصرفات بعض المصريين أو كثير من المصريين، فحين يتقلد الواحد منهم مناصب فى السلطة ينقلب رأسا على عقب كما لو أن مسًّا من الجن والعفاريت أصابه فيتحول إلى كائن سلطوى، يأمر وينهى، لا يقبل النقد لا يتحمل المعارضة، تستهويه الطاعة ويطلب نفاق الآخرين، فما بالك لو اتسعت مساحات السلطة؟! دون أن ننسى أن ضباط الشرطة يتصادمون أغلب الوقت مع مجرمين وسفلة ومسجلى خطر وبلطجية.
وما حدث فى ثورة ٢٥ يناير كان زلزالا عنيفا أصاب وزارة الداخلية، ولم تفق من توابعه بعد، وكادت فى فترة من الفترات أن تستعيد نفسها وتستردّ بعضًا من عافيتها، خصوصا مع الوزيرين محمد إبراهيم وأحمد جمال الدين، لكن التغييرات غير المنطقية لهما أعادت العجلة إلى الوراء وساءت الأحوال بعد أن تحسنت نسبيا.
صحيح أن الوجود الشرطى فى الشارع زاد على ذى قبل، لكن بشكل عام الأداء غير مقنع ويتحرك على هوامش الأزمة ولا يدخل إلى قلبها، وبالتالى لم يقلل من الأخطار التى تحاصر المواطنين، دون أن نغفل رجال الأمن الذين دفعوا حياتهم دفاعا عن أمن الناس ومطاردة المجرمين، لكننا لا نتحدث عن أفراد أو أشخاص، نحن نتحدث عن جهاز فى مأزق، وعلينا جميعا أن نساعده على الخروج منه!
نحن فى حاجة عاجلة إلى حوار مجتمعى حول الشرطة، حتى لا تعود إلى حماية الحاكم وحزبه على حساب حماية المواطن وهو خطر يعاود الزحف نحونا بسرعة مخيفة.