لا تستطيع، إذا كنت متابعا لسينما هذا الفنان، إلا أن تتذكر له فيلمه السابق الرائع «انفصال نادر وسمين» حيث كانت تفاصيل العائلة تطل علينا بين ثنايا الفيلم من خلال زوجين ينهيان الإجراءات القانونية المتعلقة بالانفصال. الفيلم حصل على جائزة أفضل فيلم «الدب الذهبى» وكذلك أفضل ممثل وممثلة من مهرجان برلين قبل عامين، وهى من المرات القليلة التى يحظى فيها فيلم بكل هذا العدد من الجوائز فى برلين، ثم تم تتويجه فى العام الماضى بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبى، ومع فيلمه الجديد «الماضى» يأتى هذه المرة متخطيا حدود إيران مثل المخرج الإيرانى الكبير عباس كيروستامى الذى صار يقدم أفلاما فرنسية ويابانية كإنتاج، حيث إن فيلم «الماضى» من الناحية القانونية ينتمى إلى فرنسا، لأنها الدولة المنتجة فعليا للفيلم ولا يغير من الأمر شيئا أن الفيلم مخرجه إيرانى والأبطال الرجال من إيران، ورغم ذلك فإنك لو استبعدت تلك النظرة المحدودة وتأملت الفيلم سوف تكتشف أنه ينتمى فى كل ملامحه الفنية إلى السينما الإيرانية وإلى عالم أصغر فرهدى الحميم، ورغم أنه لا يزال يبقى العديد من الأفلام التى نترقبها فإن فيلم «الماضى» أراه قريبا من الجائزة أو على أقل تقدير سيظل واحدا من الأفلام المرشحة، لو لم يطل علينا فيلم آخر يعيد كل الحسابات.
الفكرة الموحية التقطها المخرج من خلال امرأة فرنسية، تبحث عن حبها وتنتقل من رجل إلى آخر ودائما لديها مع كل رجل حكاية وطفل تنجبه ليصبح وكأنه شاهد على الزمن، هذه المرة نجد فى الكادر الواحد فى باريس، حيث تدور أغلب الأحداث داخل جدران شقة البطلة، الرجلان والأبناء الثلاثة والأم التى هى فى نفس المعادلة الزوجة السابقة ومعها العشيق الجديد الذى فى طريقه لكى يصبح أيضا هو الزوج القادم، وحتى يتحقق ذلك كان ينبغى أن يأتى الزوج السابق من طهران إلى باريس، فيكتشف أن عليه ليس فقط إنهاء إجراءات الطلاق ثم إصلاح البيت كما شاهدنا فى العديد من المشاهد، ولكن أيضا وقبل ذلك إصلاح العلاقات المتصدعة داخل هذه الأسرة، حيث إن البطلة لديها ثلاثة أبناء، ابنها الصغير كثيرا ما تعاقبه ولديه شرود وتمرد وابنتها الكبيرة ترفض زوجها القادم. لحظات صمت عديدة يقدمها أصغر فرهدى تذكرنى بفيلمه الأثير «انفصال» فهو دائما ما يسمح للمشاهد بأن يتأمل الكادر ليصل إلى الإجابة، كل حكاية فى الفيلم تصلح لكى تصنع حالة خاصة فى العمل الفنى ولا يمكن أن نتصور أن الأمر مجرد تجميع لمواقف بقدر ما هو تحليل لطبيعة البشر. لا أحد شرير ولا أحد ملاك الكل تجد فيه ما يمكن أن تتعاطف معه، الرجل الذى ترتبط به عاطفيا لا يستطيع أن يتزوج، فهو فى حياته سر لا يواجهه أو يجابهه، وهو أن زوجته مصابة بفقدان الوعى «كوما»، والمشهد الأخير نراه مع تلك المرأة يسكب لها عطرها المفضل ويطلب منها أن تتنفسه، ويمسك يدها فى انتظار إشارة منها، فهو رغم كل شىء لا يزال متعلقا بها وتأتى الإجابة وكأنها أسلوب خاص للمخرج يترك من خلالها كل الأبواب مشرعة كل الإجابات ممكنة وتبتعد الكاميرا وفى نفس الوقت تقترب وتحدق المشاعر، أنت لا تستطيع أن تدين أحدا أو تبرئ أحدا، فالرجل كان يعيش مع زوجة دائمة الاكتئاب، ولهذا يتطلع لكى يعثر على نافذة عاطفية تخرجه من أزمته، الابنة التى ترفض وتتصدى لزواج أمها من هذا الرجل هى التى تبحث عن إيميل زوجة هذا الرجل لكى تفضحه ولكنه يأتى عن طريق الخطأ إلى عاملة فى محل تنظيف الملابس الذى يعمل به، وتستغل تلك المرأة خلافها مع زوجته فترسل إليها الإيميلات المتبادلة بين بطلة الفيلم وزوجها وبسبب ذلك تصاب بالغيبوبة، الدراما الصاخبة لا تستحوذ على المخرج الذى هو أيضا كاتب السيناريو فهو يرى فى النهاية أنه يتعامل مع بشر، حتى فى لحظات ضعفهم، لا تملك سوى أن تزداد تعاطفا معهم، البطل القادم من إيران لكى يرأب صدع هذه الأسرة المفككة لا تستطيع أن تتركه بلا إدانة، حيث إن خضوعه لتلك المرأة هو الذى أدى فى النهاية إلى أن يصبح الرجال بالنسبة إليها مجرد محطات للإنجاب، من اللقطات التى نفذها أصغر فرهدى بحرفية عالية، أتذكر مثلا مشهد الرجلين لم يفعلا شيئا سوى الصمت والنظرات وكأنهما بين كل نظرة وأخرى يتبادلان ضربات الرصاص، المخرج يجيد فن قيادة ممثليه، تستطيع أن ترى ذلك حتى فى الطفلين اللذين قدمهما الفيلم.
إننا بصدد شاشة هويتها فرنسية وهواها إيرانى، فهو فى حقيقة الأمر ليس سوى فيلم إيرانى مئة فى المئة، صحيح أن النساء لا يرتدين الحجاب، فالبطلة برنيس بيجو فى الواقع تؤدى دور فرنسية، وبالتالى لا ترتدى الحجاب ولكن لو تغاضينا عن تلك التفصيلة سنجد أنه فيلم إيرانى تستحوذ الفكرة الإنسانية على بؤرة الفيلم، ومن بين التفاصيل التى تلحظها ومرتبطة فى العادة بالسينما الإيرانية تمسّك المخرج بأن لا يقدم أى علاقات جنسية رغم أن الموقف من الممكن أن يتسع لذلك.. الحضور الطاغى للأطفال فى العمل الفنى، حيث يصبح الطفل مرآة ترى من خلالها العمل الفنى، بطلا الفيلم الرجال كل من الإيرانيين طاهر رحيم وعلى مصطفى، والفرنسية برنيس بيجو، قدموا العديد من اللقطات التى تدخل فى إطار براعة فن الأداء، حيث إن فرهدى من المخرجين القلائل الذين يجيدون بحرفية عالية فن قيادة الممثل، ولهذا فإن من حقهم أيضا التطلع إلى الجائزة، إنه فيلم من الصعب أن يغادر الذاكرة.