ما قلته في الجزء الأول من هذا المقال »ليه بيداري كدا؟« عن تجاهل الوزير باسم عودة لـ»مجال السياسة« المتداخل مع نتاج عمله لم يكن تحليلا محضًا، ولكن الوزير نفسه أكده في حوار مع فضائية أخرى.
يسأله مذيع الفضائية الإسلامية : البعض يفسر لوجود كادر إخواني مثلك في منصبه، كمسؤول عن وزارة التموين التي تمس الاحتياجات الأساسية للناس، بأن الغرض منه هو الاستفادة من ذلك في أقرب انتخابات.
يرد الوزير أنه منذ تولي الوزارة أصبحت له صفة واحدة فقط هي «وزير التموين». أما صفاته الأخرى ستعود إليه بعد آخر يوم في الوزارة.
طيب ليه بيداري كدا؟
يعامل الوزير الانتماء إلى تيار سياسي باعتباره سبة أو كأن انتماءه فقط هو شكل من أشكال الفساد والمحاباة. ربما لأنه يتجاهل الفارق بين الانحياز والفساد.
من حق الوزير أن يعلن أنه ينتمي للإخوان ولحزب الحرية والعدالة، وأن رؤيتهم لإدارة الشؤون العامة فعلا ستكون رصيدًا لهم في الانتخابات المقبلة، وهو لم يكن ليكون في منصبه لولا أنه قيادي في هذا التيار، وبالطبع نجاحه جزء من نجاحهم وسيصب لمصلحتهم، ولكنه ساعتها مضطر، لأن ذلك مختلف عن استغلال منتجات الوزارة للدعاية الذي هو فساد يختلف عن الاستفادة السياسية المشروعية لأي تيار من تطبيق رؤيته.
ولكن لماذا ينكر الوزير وجود السياسة في أعلى هرم الوزارة، بينما ينكر أو يتعامى أن تياره ذلك يمارس السياسة في أدنى الهرم.
الوزير في أعلى هرم الوزارة يحتل مكانه، لأنه منتمٍ لتيار سياسي معين له حق تشكيل الحكومة، لكن موظف مديرية التموين لو فاز بوظيفته، لأنه ينتمي لتيار سياسي معين سيكون ذلك فسادًا.
أن ينسب الوزير فلسفة ما لإدارة الوزارة للتيار الذي شكلها فهو أمر مشروع، لكن أن يستغل كوادر الإخوان و«الحرية والعدالة» منتجات الوزارة للدعاية السياسية لتيارهم عبر لصق شعاراتهم فوق سيارات التوصيل وبطاقات طلب التوصل فهذا فساد.
أليس من الأولى أن يخلع المتطوعون لتوصيل الخبز للبيوت انتماءهم الحزبي قبل تقديم خدمة تطوعية أو بمقابل زهيد أو تكون خدمة التوصيل خدمة «فنية» بحتة من قبل شركة أو مشروع تطوعي محلي؟
لماذا تمارس كوادر الجماعة والحزب الدعاية السياسية بنتاج أموال كل المصريين مستخدمين نفس منطق نظام مبارك في استمالة الناس بالخدمات بديلا عن فشل ساحة السياسة التي امتلأت تضييقًا على الحريات وإهدارًا للحقوق.
الوزير وصف الأخبار عن اقتران توصيل الخبز بالدعاية السياسية بأنها شائعات أو واقع غير موجود.
الوزير الذي ينتمي لجماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة وذي الباع الكبير في العمل تحت إطارهم في مجال التنمية المحلية، والذي يجوب مواقع الإنتاج والتوزيع وترسل لنا صفحته الشخصية وصفحات الإخوان الصور كل ساعة عن نشاطه وحركته، ألا يعلم شيئًا عن أحد الأنشطة الرئيسية لتياره في محافظات متعددة، والتي تحتفي بها مواقع وصفحات الحزب والجماعة: في القاهرة و الإسكندرية و أسيوط و أسوان و السويس و الشرقية و كفر الشيخ و الدقهلية و المنيا وغيرها. وكل الروابط السابقة هي من مواقع الحزب والجماعة.
هناك احتمال بسيط وكارثي أن الوزير الذي كان رئيس لجنة التنمية المحلية بحزب الحرية والعدالة لا يعلم شيئًا عن خطط حزبه، وهو احتمال يطعن في كفاءته التي لا أناقشها في هذا السياق وسأسلم بأنها كفاءة فائقة.
يتبقى احتمال ثانٍ أنه يعلم ويتعامى عامدًا عن هذا الشكل من الفساد- الذي تحمل بعض استماراته توقيع «باسم عودة»- أو أنه يتجاهله خجلا، لأنه لا يمكنه الدفاع عنه. في الحالتين الوزير يكذب ويشارك في فساد سياسي.
يشكو الوزير من عدم إنصاف الإعلام لجهود الوزارة لأسباب سياسية، وربما كان محقًا، ولكن الوزير وإعلامه الشخصي عبر صفحته النشيطة التي تسجل كل حركة وسكنة له يمارسون إعلامًا غير منصف يتجاهل أولا مجال السياسة ثم لا يناقش ذلك اِلتداخل بين عمل وزارته ومصالح حزبه وجماعته. يكرس إعلامه الخاص للحديث عن الفارق بين الوزير الجديد الثوري الشاب النشيط الكفء وبين شياطين العهد البائد وفسادهم ثم يتجاهل الاعتراض الأول الذي يسألهم: «لماذا تكررون أسلوبه؟».
بغض النظر عن النوايا والجهود والتفاني والكفاءة التخصصية، إخفاء السياسة في مواضعها وإشهارها في غير مواضعها هو فساد.
الأمر لا علاقة له بمساءلة نيّة الوزير التي يثق فيها إخوانه ويتشكك فيها خصومه. السؤال يتعلق بماهية الرؤية السياسية التي تمنع الفساد هنا بغض النظر عن النوايا وحسن الأخلاق. ولكن لماذا أصلا يطوّر تيار أي رؤية تمنع الفساد السياسي بينما كوادره ووزراؤه يشاركون فيه ويستفيدون منه.