لكى يحدث هذا لا بد من دخول مجموعتين على مملكة الحيوان. مجموعة من البشر الانتهازيين، ومجموعة من البشر الأغبياء.
فأما الانتهازيون فسوف يضعون الخطة للخِراف لكى تسيطر على المملكة. أحد أساسيات الخطة، ركنها الركين، أن يكون الملك خروفًا. هذا جزء أصيل جدا من الخطة، دونها تفسَد. فالخروف كائن مضمون جدا لتنفيذ الإرادة الجامعة لهؤلاء الانتهازيين دون اعتراض ولا تعطيل. والخروف ضمانة لكى تنظر الخرفان إليه فتطمئن. وتعتقد أنها انتصرت.
ما دور البشر الأغبياء إذن؟ سأعود إلى هذا بعد قليل.
الخروف ليس كائنا سهلا. ليس دجاجة ولا حمامة. لديه قرون لا بأس بها، سهل القياد، يسير فى قطعان، ويتناسل بنسبة معقولة جدا، تجعل من الممكن تحمل ثمن التضحية ببعض منها. لا سيما أن الخروف المقتول لا يتوقف عن تقديم فوائد. من صوفه نغزل ملابس، ومن جلده نصنع مفارش للجلوس.
مشكلة الخروف الوحيدة هى خروجه عن القطيع. لكن الراعى الذكى، وهو فى هذه الحالة التى نتحدث عنها أحد صفوة الانتهازيين، يستطيع أن يلجمهم. أن ينظمهم. أن يوجههم. ويستطيع -خدى بالك- أن يغرى بعضهم بالخروج من القطيع. وأحيانا يغرى كثيرا منهم بالخروج من القطيع. حيوانات المملكة المفترسة تحتاج إلى طعام يبرِّد جوع معدتها. ومن الأفضل، هكذا يقرر قادة الخراف من البشر الانتهازيين، أن يقدموها هم، حسب إيقاعهم، بدل أن تأتى الحيوانات المفترسة بنفسها لتأخذه. وقد تصاب الخرفان بالرعب. ويتشتت القطيع إلى غير رجعة.
هل هذه هى الفائدة الوحيدة من تقديم بعض الخرفان فريسة؟! طبعا لا. الإجابة تعيدنا إلى موضوع دور البشر الأغبياء.
تقديم الخرفان فريسة له فائدة أخرى، غير الصوف، وكَفّ «أذى» الحيوانات المفترسة. إنه «يحنِّن» قلب البشر الأغبياء على الخراف. ويلعب فى وعيهم. ويقنعهم أن الخروف أطيب من النمر، أو الذئب، أو الأسد.
هكذا الأغبياء. يخلطون بين الضعف والطيبة. لا ينتبهون إلى العلاقة الطردية بين الضعف والخبث. والعلاقة الطردية بين الضعف والنذالة. للأقوياء طبعا مثالبهم، هناك علاقة طردية بين القوة والافترا، وبين القوة والعدوانية.
إنما مجموعة البشر الأغبياء الموجودة فى مملكة الحيوان، لا يدركون الصورة كاملة. لا يدركون أن ملايين «المستضعفين» الذين يعيشون فى بيوتهم وحولها وداخلها، ربما يكونون أكثر خطرا من آلاف المفترسين، النفورين، الذين يعيشون فى البرارى. وبالتالى، بسبب غياب الصورة الكاملة، فليس عند هؤلاء الأغبياء أى تصور للاستفادة من الوضع لصالح أنفسهم، لصالح بقائهم، مجرد بقائهم على قيد الحياة، بالحد الأدنى من مقومات الحياة. الانتهازية أفضل كثيرا من الغباء يا صديقتى. إنما منظومة أخلاق المستضعفين التى تربَّى عليها هؤلاء الأغبياء تصوِّر لهم العكس. وتقدم لهم سندا خطابيا أخلاقيا يكمل الخطة. خطة الخصوم. «النمور تأكل الخراف. الذئاب تأكل الخراف. سنقف إلى جانب الخراف لأن وقوفنا إلى جانبها انتصار للحق؟!».
جاك كسر حقك منك ليها له!! أىّ حق؟ الدوافع التى تحرك الخروف فى حياته هى نفس الدوافع التى تحرك الذئاب. أن يعيش ويبقى. كون الذئب أمهر من الحَمَل، كون الذئب برّيًّا والحَمَل يعطيك لحمًا ويأكل منك برسيما وذرة، ليس معناه أىّ تفوق «أخلاقى» للحَمَل على الذئب. إنما يعنى تفوقا «منفعيا». تستفيدين من الخروف أكثر مما تستفيدين من الذئب. ولذلك تحبين الخروف أكثر مما تحبين الذئب. طلّعى الأخلاق من الموضوع. وإلا فإن قتلك لعنكبوت واحد يصير جريمة أخلاقية شنيعة. يا بتاعة الأخلاق!!
هذا يقودنا إلى بيت القصيد. ماذا إن كان الراعى اكتشف نغمة على الناى تجعل الخرفان تهاجمك! قطعانا قطعانا. وتدوسك تحت أقدامها. وتقلق حياتك. وتصرّ على أن تسير هذه الحياة حسب أمزجتها هى، حسب رغباتها. مستعينة بكثرتها العددية، وتناسلها فى الجو الآمن الذى توفَّر لها. كيف ستتصرفين؟
بعض الأغبياء المتحجرين، حتى وقد وصلت المملكة إلى هذه الحالة، لم يدركوا حكمة وجود النمور والذئاب والأسود والصقور والنسور، وسم الخرفان. لم يدركوا الخدعة الشنيعة فى وصول خروف المآتة إلى عرش المملكة. ليس فقط خطر الخرفان، بل خطر البشر الذين يشغلونه، وأيضا خطر الذئاب التى إن لم تجد خرافا تأكلها ستأكل أطفال البشر. لم يدركوا هذا بسبب وعيهم الملتبس عن الذئاب والخراف، وعن النمور والعناكب. بسبب استدعائهم لكلمة «الأخلاق» فى غير موضعها.
المعرفة أصل الخير. والجهل والغباء منبع الشر.