معلمة شابة فى «الأقصر» هى آخر ضحايا محاكم التفتيش الجديدة فى مصر، دميانة عبد النور، فتاة فى بداية العشرينيات، فى بداية حياتها العملية، سلطت عليها تلك التهمة الغامضة المسماة «اذراء الأديان»، فحسب الشهود، إن كان يمكن الاعتداد بشهادة ثلاثة من التلاميذ الصغار، أنها كانت تلقى درسا فى المواد الاجتماعية، عندما اقترفت فجأة ثلاث جرائم دفعة واحدة، ازدراء الدين الإسلامى والتأكيد على أن المسيحية أفضل من الإسلام، وإهانة الرسول الكريم بالقول إن المسيح أفضل منه، ومحاولة تنصير التلاميذ وإدخالهم الدين المسيحى. هكذا فى حصة واحدة ارتكبت المعلمة موبقات لا تقوم بها حملة تبشيرية كاملة، وفى الواقع فإن تهمها الحقيقية الثلاث فى نظر المتشددين أنها امرأة ومسيحية وغالبا ليست محجبة، فإدارة المدرسة، والنيابة من بعدها، لم تستمع إلى الشهود من التلاميذ، ولكن إلى ادعاءات أولياء الأمور، إلى ثلاثة منهم على وجه التحديد، كانوا غاضبين ومنفعلين، رغم أنهم لم يحضروا الواقعة، ولم يسمعوا كلمة تجديف واحدة، وتبين فى ما بعد أنهم كانوا جيرانا للمعلمة، وبينهم وبينها مشاحنات لا تمت للدين بصلة، ولكن وكيل النيابة كانت أكثر تزمتا من الجميع، فأمر بحجز المدرسة المسكينة على ذمة التحقيق حتى يستمع إلى شهود لم يكونوا موجودين، وتصل إليه تحريات جهاز الأمن الوطنى الذى كنا نعتقد أنه لم يعد يتجسس على المواطنين أو يتعقبهم.
من ذا الذى يزكى نار الفتنة الطائفية؟ وكيف امتد التعصب من قلوب البعض، ضد شركاء الوطن من الأقباط، إلى سلطات التحقيق التى من المفترض أن تطبق القانون بحيادية وعدالة، لا أن تقوم باحتجاز المواطنين لمجرد وشايات من أطفال صغار وآباء متعصبين، لقد أنكر تلاميذ مسلمون آخرون حدوث الواقعة، وشهد زملاء المعلمة أنهم لم يروا فى حديثها أى نوع من التطاول، ورغم أن الشك يفسر فى صالح المتهم فإن النيابة حرمتها من حريتها، وخضع وكيلها الهمام لضغوط محاكم التفتيش الجديدة، تجمع يدعى «رابطة المحامين الإسلاميين» فى الأقصر تدخلوا فى القضية ليدعموا مطالبة أولياء الأمور واعتبار ما قامت به المعلمة فعلا شائنا يحرض على الفتنة الطائفية رغم أنهم أكبر عواملها، وهكذا تألبت قوى السلف المتشددة ضد المعلمة المسكينة التى لم تجد حتى الآن من يناصرها، لا فى حكم المنطق ولا فى نصوص القانون، ولم يعد أمامها إلا أن تُضرب عن الطعام، وأن يتم نقل جسدها المنهار إلى المستشفى، لعل القلوب الغليظة ترق قليلا، لن تكون هذه المرة الأخيرة التى يتعرض فيها أقباط الوطن لهذا التمييز الظالم، أو يتم مطاردتهم بتهمة ازدراء الأديان. أسرة قبطية فى بنى سويف تحتجز من ثلاثة أفراد، تحتجزهم للتحقيق بنفس التهمة، طفلان صغيران يقبض عليهما لأنهما تبوَّلا على صفحات القرآن، حسب شهادة وحيدة من شيخ سلفى، صليب معقوف يرسمه طفلان مسلمان يتسبب فى حرق كنيسة وسقوط عدد من القتلة، حوادث ترتفع وتيرتها كل يوم، إشارات واضحة للعداء الواضح والصريح الذى ينفث سُمَّه فى لُحمة الوطن الواحد، فى كل بلدة تنصب الجماعة المتشددة محكمة التفتيش الخاصة بها، تمارس افتراءاتها ضد الجميع، مسلمين وأقباط، ولكن المؤسف أن الأقباط فقط هم الذين يتعرضون للحبس والاحتجاز بسبب تحيز سلطات التحقيق، وكأن كثافة اللحية تجعل الكلام مصدقا، تماما كما كان يحدث فى إسبانيا فى القرون الوسطى.
فى ذلك الوقت كان عداء الكاثوليك الإسبان للمسلمين واليهود الذين بقوا بعد سقوط الأندلس عنيفا، وامتدت نيران تعصبهم إلى بقية المسيحيين خارج مذهبهم مثل البروتستانت، وظهرت تهمة الهرطقة التى تشبه تهمة ازدراء الأديان الحالية، وتشكلت محاكم من القساوسة المتشددين للتفيش فى صدور الناس عن إيمانهم الحقيقى، وتوقيع العقاب على كل من يخالفهم فى تفسير الإنجيل، تماما كما يصر المتشددون الآن على تفسير الشريعة حسب رؤاهم، وترأس هذه المحاكم «المفتش الأعظم» الذى جعل هدفه استئصال كل من يخالفون معتقداته، ويقال إن اثنين من كل عشرة متهمين تم عرضهم عليه قد أُحرقا أو أُعدما، وفى غضون أشهر قليلة تم القضاء على ثلاثة أرباع مليون من الهراطقة، وهرب ثلاثة ملايين آخرين من بيوتهم، وظلت محاكم التفتيش علامة تاريخية دالة على مدى التعصب والانغلاق الذهنى، ولعلنا سننافس هذه العلامة قريبا، ويروى «ديستوفسكى» فى رواية «الإخوة كارامازوف» أن السيد المسيح عاد إلى الأرض من جديد، ولكن سوء الحظ أوقعه فى يد المفتش الأعظم، واستدرجه المفتش حتى سجنه داخل قبو عميق، وفى الليل ذهب إلى سجنه وأخذا يتناقشان، ودحض المفتش كل حجج المسيح، وتوصل فى النهاية إلى أن المسيح ليس مسيحيا كما يجب، وأنه يستحق أن يعاقب بتهمة الهرطقة، ولكن المفتش، شفقة عليه، سيسمح له بالهرب ولم يجد المسيح من رد إلا أن ينهض ويقبل المفتش على جبينه قبل أن يختفى، وهذا ما يفعله أهل السلف وأتباعهم بنا، يجردوننا من ديننا وإيماننا، يطاردوننا، مسلمين وأقباطا، بتهمة ليس لها تعريف قانونى محدد، مجرد تعابير مطاطة تختلف باختلاف المكان والزمان، ولكنها تفتح الباب أمام سلطات التحقيق التى سرعان ما تستجيب لهذا المناخ المحموم، فتحقق وتحتجز وتقاضى، ومنذ وصول الإخوان إلى السلطة، وظهور السلف كأتباع مخلصين لهم، وقد استدعوا أسوأ ما فى الماضى، أزاحوا الغبار عن أفكارهم المتخلفة ليقاضوا الجميع، تؤازرهم فى ذلك نصوص فى الدستور الجديد التى لا تحصن حرية الأفراد ولا تحمى حرية الرأى بشكل محدد وواقعى، ولكنها تفتح الباب لمقاضاة الجميع والتسلط عليهم. إنه الفخ الذى نصبه الإخوان والسلف لكل من يعارضهم فى الرأى من المسلمين، أو يخالفهم فى الدين من الأقباط، ووفق قانون «ازدراء الأديان» المطاط تم رفع نحو 600 قضية ضد معظم الإعلاميين وأصحاب الرأى وكل من يوجه نقدا إلى الرئيس المؤمن، وتكونت كتائب من المحامين يتصرفون وفق تعليمات المفتش الأعظم، ويستغلون «قانون الحسبة» التى كنا نعتقد أننا تخلصنا منه ويغلفون أطماعهم السياسية بدعاواهم الدينية، ومن المؤسف أن أفرادا فى السلطة القضائية يستجيبون لهم، ومن المؤكد أن هذه القضايا هى وسيلة يدارى بها الإخوان المسلمون عجزهم وتجربتهم الفاشلة فى حكم مصر بتوجيه التهم الدينية إلى الذين ينتقدونهم. تهمة باسم يوسف ما زالت قائمة، التحقيق مستمر مع الكاتب والروائى يوسف زيدان، وطالت التهمة معلمة أخرى هى الأديبة الروائية منى البرنس، لأنها تجرأت وتحدثت عن الدور الذى يقوم به بعض شيوخ السلف فى إثارة الفتنة الطائفية. وكالعادة سارعت إدارة جامعة السويس بوقفها عن العمل وتحويلها للتحقيق، وتطارد التهمة العديد من الأساتذة فى جامعات مختلفة، بينما لم يتعرض أى من شيوخ السلف الذين لا يكفون عن مهاجمة الدين المسيحى جهارا نهارا لأى نوع من الاتهام، وربما لو اتبعنا خيال ديستوفسكى، وتقابل جماعة من السلف والإخوان مع الرسول الكريم، كيف سيواجهون سماحة الدين الذى أنزل به، ماذا سيقولون له حول الطرق التى يتبعونها فى تطبيق شريعته، والتضييق الذى يفرضونه على أتباعه، وماذا عن الإهانات التى يوجهونها إلى جيرانهم من أهل الكتاب، وهل يعتقدون أنهم أكثر إسلامًا منه؟