قال «ابن بطوطة» عندما قرر الرحيل عن طنجة: «رحلت وحيداً. لم أجد أحداً يؤنس وحدتي بلفتات ودية، ولا مجموعة مسافرين أنضم لهم. مدفوع بِحكمٍ ذاتي من داخلي، ورغبة عارمة طال انتظارها لزيارة تلك المقدسات المجيدة. قررت الابتعاد عن كل أصدقائي، ونزع نفسي بعيداً عن بلادي. وبما أن والديَّ كانا على قيد الحياة، كان الابتعاد عنهما حملاً ثقيلاً علي. عانينا جميعاً من الحزن الشديد».
هكذا الرحيل دائماً، يبدو حملاً ثقيلاً تنوء به أرواح البشر، ويتميز المصريون تحديداً بإرتباطهم الشديد بالأرض، بحكم التكوني المجتمعي كبلد زراعي، ارتبط فيه الفلاح بأرضه في علاقة عشق خاصة، منها أتى ومنها ولها وبها يعيش، وفيها يموت، لذلك كانت «غُربة» المصريين هي الأكثر إيلاما، حين يجترون الحنين في بلاد غربتهم، يتنسمون رائحة الوطن عبر البريد والأخبار في عقود مضت، وعبر الإنترنت والفضائيات حالياً.
لكنه قرر الرحيل يوماً ما، حين حصل على منحة من المجلس الثقافي البريطاني لدراسة الدكتوراة في جامعتي جلاسجو واستراثكلايد في اسكتلندا، ودع الأهل في منشية جنزور إحدى قرى مركز طنطا، قبل يدي أمه رفيقة الدرب التي ستبعدها الغربة، وسافر.
*****
لم يكن حلم الصغير عادياً، ففي قرية تبلغ نسبة من حصلوا على تعليم جامعي فيها 3.28% من جملة السكان الذين يصلون إلى 10 ألاف مواطن، كان الحلم هو الدليل، وكان تحقيقه خطوة بخطوة هو السبيل.
وعلى يدي أمل دنقل في نهاية كل يوم، كان يلتقي بصديقه، يشكو إليه ما يضايقه، يحكي إليه حاله، ويسمعه، عبر ابيات شعره التي حفظها عن ظهر قلب، وشكلت جزء من روحه الرحالة الباحثة عن الطريق.
وفي نهاية الحلم الأول كان على موعد مع الحصول على درجة الماجستير في الصحافة التلفزيونية وعلى دبلوم الإنتاج التلفزيوني في معهد التدريب التابع للتلفزيون الهولندي، ليكون أول مصري يقوم بالإشراف على تدريب العاملين في التلفزيون المصري في إطار اتفاقية التعاون بين مؤسسة فريدريش ناومان الاتحادية واتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري.
حينها أدرك الصبي الصغير الذي صار كبيراً، أن ما وصل إليه هو فقط بداية الرحلة، وقرر الاستجابة لنداء أسلافه العظام ابن بطوطة، والشريف الإدريسي، وأحمد بن ماجد، وشد الرحال إلى بلاد الإنجليز.
*****
لم يكن وجهه المثلث ذو الحاجبين الكثيفين، والعينان اللتان تحملان رغم وسعهما ضيقا وحزنا، وأنفه الكبير وفمه ذا الشفاه الرفيعة وشعره الذي قرر التراجع ليفسح المجال لجبهته مألوفاً في الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس عام 1993، لكنه على الرغم من هذا انضم إلى تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية لدى إنشائه عام 1994م، واختير كأول مراسل يتحول للشؤون الدولية قام أثناءها بتغطية حرب البوسنة ومسألة الشرق الأوسط.
وكأن الرحال بداخله لا يهدأ، من غربة غلى غربة تحوي حربا، وكأنه قرر أن يستمع إلى نصيحة صديقه الشاعر أمل دنقل حين قال : وأنتَ في المِذياعِ، في جرائدِ التَّهوينْ، تستوقفُ الفارين، تخطبُ فيهم صائِحاً: «حِطّينْ»..وترتدي العِقالَ تارةً، وترتدي مَلابس الفدائييّنْ، وتشربُ الشَّايَ مع الجنود
في المُعسكراتِ الخشِنه،وترفعُ الرايةَ،حتى تستردَ المدنَ المرتهنَة،وتطلقُ النارَ على جوادِكَ المِسكينْ.
قرر صاحبنا ألا يستوقف الفارين في المذياع، بل يساعدهم على العودة إلى ساحة المعركة.
وحين عاد لينضم إلى إلى تلفزيون وكالة أنباء أسوشييتد برس ليشارك في إنشاء قسم الشرق الأوسط، كان البناء بداخله يتحدى الرحالة الذي انتصر، وغادر إلى الجزيرة.
*****
يظل الرحالة يتحين الفرصة لإكتشاف جديد، وهذا ما فعله يسري فودة حين بدأ عام 1998م في إنتاج برنامجه الشهري «سري للغاية»، حين قرر أن تأخذ الرحلة مساراً جديداً، ليغوص في خلفيات الأحداث، ويسافر كل بقاع الأرض، حتى الأرض المحرمة ليصنع فارقاً، ليضع قدمه على جبل يعصمه من الغثاء، حين كان "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ.
وبين مقار الماسونية، وحضرات الصوفية، وأوكار الأشباح وشبكات الجواسيس، وخلف أحداث 11 سبتمبر، وداخل متاهات «القاعدة» كانت روح الرحالة تسمو وتمتلأ، وكان الحلم قادراً على النماء.
ثم أطلق كتابه عن تلك الرحلة عام 2003 في سبعة أجزاء نفس العنوان، وفي 2009 كان عليه أن يلبي النداء، كان لابد من الرحيل، لأسباب قرر أن لا يعلنها، وأعلنها صديقه أمل دنقل حين قال:
لا تنظروا لي هكذا، إني أخاف..لست أنا الذي سحقت الخصب في أطفالكم، جعلتهم خصيان، لست أن الذي نبشت القبر، كي أضاجع الجثمان، لست أنا الذي اختلست ليلة، لدى عشيقة الملك، فلتبحثوا عمن سيدلي باعتراف الآخريـــن .
*****
وعلى أرض الوطن وبين جنباته عاد الرحالة ليلتقط أنفاس الوطن الذي ثار، وكأن التاريخ أحبه ورفض أن يكون خارج مصر في تلك الفترة تحديداً، لتتوقف الرحلة ويسكن الثورة بيتا وأما بعدما رحلت الأم، ويتحول «يسري فودة» وبرنامجه «أخر كلام» إلى إرسال الثورة الحي، صوتها الذي يعبر عنها دون إدعاء أو بحثاً عن بطولة، وخلال عامين وبضعة شهور كان الثوار ينتظرون الساعة الحادية عشر ليتحدث عنهم من يعرفهم حين أنكرهم الجميع، وصارت مقدمته الشهيرة هي اللوحة التي يضع فيها كل ثائر خطا أو لونا من روحه، يعيد سماعها ويشعر أنها منه وله وتعبر عنه.
ربما لا يكون الرحالة الأخير، الإعلامي يسري فودة الأفضل على الساحة، لكنه بلا شك الأقوى، وقد تختلف معه لكنك لست قادرا إلا على احترامه، ربما لا تحبه عندما يضحك، لكن «لا تنتظري أن يبتسم العابس، فالفارس ليس الفارس،مدي بإنائكِ، عبر السلك الشائكِ، مدي طرف ردائكِ، حتى يصنع منه للقلب ضمادا، ويسد شقوق البرد القارس، تتوالى كل فصول العام على القلب الباكي،لم يستر روحه عبر الأشواك سوى رؤياكِ».
ننتظرك ونعلم أنه ليس هناك أصعب من السكن على الرحالة.