طيب اسمحى لى أصدمك. يحلو للمصريين أن يتحدثوا عن «الإسلام المصرى»، فى مقابل «الإسلام الوهابى».
أنا لا أعرف ما هو «الإسلام المصرى» هذا الذى نفضّله على غيره. نشأتُ فى المجتمع الذى نراه حاليا، حيث المصريون يُظهِرون لك وجها سمحا متدينا، موحيا بالالتزام والثقة، ما دام كان فى ذلك مصلحة. واحد رايح يتجوز واحدة وبيقابل أهلها أول مرة. صنايعى جاى ياخد مقاولة شغل. بنت بترسم على عريس. رئيس فى أول أيامه وعايز يسجِّدنا علشان يفسد على راحته. مرشحة للنقابة... إلخ.
أما الإسلام الوهابى فقد انبهر به العمال المصريون حين ذهبوا إلى السعودية. ما معنى هذا؟
معنى هذا أن المغتربين المصريين حين رأوا الإسلام الوهابى يعمل فى أرضه، وقارنوه بما لديهم فى مصر من طبقية وعنجهية وظلم يسانده رجال الدين الموالون للسلطة، أو على الأقل لا يكترثون به، فقد قرروا أن هذا الإسلام الوهابى أفضل. كان ينقصه فقط الفرفشة المصرية، وشوية رقص وهشتك بشتك، وشوية حشيش، ودا سهل، هيضيفوه لما يرجعوا بلدهم، ويطلعوا لنا بهذا المركَّب المشوَّه الذى نعيش فيه.
لم يأخذوا من الإسلام الوهابى صدقه وأمانته وبساطته ومساواته بين الأفراد (انسى الطبقة الحاكمة)، بل أخذوا كسل البيئة الخليجية الحارة، وأخذوا الطبع الرَّعوى فى انتقال المرأة بخيمتها على جسمها، وأخذوا احتقار فكرة القانون، وأخذوا التخلف عن مواكبة التطور الفكرى، وسمُّوا كل هذا دينا. لقد صار هذا هو الدين المصرى المعاصر. وهو إذ يقارَن بالدين الوهابى فما أحلى الدين الوهابى. نسمع عن «مخالفات جنسية» داخل البيوت، كأى مجتمع، لكننا لا نسمع فى السعودية عن تحرش جماعى. نسمع عنه فى مصر. ويبرره رجال دين فى مصر.
أنا عايز أقول إيه؟ عايز أقول إن النسخة الوهابية بنت بيئتها. وهى بالتالى أفضل فى بيئتها. إنما النسخة المصرية من الدين مش بنت بيئتها. فيها مكوِّن مفروض عنوة.
لكن هل المشكلة حديثة؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون أن تقرئى فى التاريخ؟ دون أن تخبرينا لماذا لم تتقدم مصر منذ سقوط دولة الفراعنة حتى محمد على.
الهوية المفروضة تنتج خلطة معطلة، تشبه الخلطة التى حدثت فى أوروبا حين تبنت السلطة النسخة الجاهزة من الديانة المسيحية التى أتى بها رجال الكنيسة. لقد جاؤوا للأوروبيين بتفكير بنى إسرائيل، فى عصر مختلف. جاؤوا لهم بتعليمات لا تشبه بيئتهم، ولا خلفيتهم الثقافية والفكرية. خلطة دفعت أوروبا ثمنها ألف عام من التخلف والمجاعات والحروب المستديمة، والظلم الاجتماعى، والقصور الفكرى. ولم تتحرر إلا حين تخلصت من سلطة هؤلاء، وبدأت فى إنشاء عقد اجتماعى يناسب طبيعة البيئة الأوروبية والمواطن الأوروبى. وتركت الناس تعبّر عن هوياتها بلا خوف. الموسيقيون خرجوا من سيطرة الكنيسة على الموسيقى وأدخلوا ألحان الشارع، فأنتجوا إبداعاتهم. العلماء خرجوا من تصورات الكنيسة واتَّبعوا عقولهم فأبدعوا.. الأدباء، المفكرون، الرسامون،الفلاسفة، وهكذا. هكذا صيغت نسخ من الدين تعبر عن البيئة الأوروبية.
البروتستانتية الأوروبية بما فيها من قيم المنافسة والصدق والأمانة والنزعة الفردية والمساواة، أنتجت الرأسمالية. المجتمعات الكاثوليكية الأوروبية بعد الإصلاح الدينى، أنتجت دولة الرفاه الاجتماعى.
لكن أخبرينى عن البظرميط المصرى.. ماذا أنتج؟ أنتج دولة البظرميط. ومجتمع البظرميط. المذموم من الآخرين فى كل شىء إلا خفة الدم والتنكيت. نريد لحظة صدق مع النفس ندرك فيها كيف يرانا الآخرون. كيف يرون العامل والموظف المصرى، كيف يقيِّمونه، ما صفاته الشائعة. لا يختلف كثيرا عما نراه داخل بلدنا. شخص كسول، كثيرا ما يغش ويخادع ويكذب. ثم يخفى ذلك خلف طبقة سطحية من التمتمات الدينية. بل انظرى إلى الإسلامجية السلفيين أنفسهم، وإلى الإخوان المسلمين وغيرهم من الجماعات. بعد أن عاشرناهم فى موقع غير موقع المضطهَد، صار الإنسان قادرا على أن يقول بالفم المليان، بئست الأخلاق وبئست الطباع وبئس الكذب والنفاق والمخادعة. النسخة الحالية من «الدين المصرى» تجمع مساوئ النسخ المحيطة، ولا تنال شيئا من حسناتها. لازم ندرك كده ونبطل تنطيط على البشر. نحتاج إلى صياغة نسخة من الدين تعبر عن بيئتنا وهويتنا.