شخصيا، لم أتفاجأ من تصريحات وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى، والتى أكد فيها بوضوح لا لبس فيه أن الجيش لن يتدخّل فى السياسة، ولن ينزل إلى الشارع أبدًا، لأن ذلك أمر «فى غاية الخطورة، وقد يحوّل مصر إلى أفغانستان والصومال».
لم أتفاجأ، لأن الرجل ألمح مرات عدة إلى هذا المعنى نفسه، لكن القائد العام للقوات المسلحة كان، أول من أمس، شديد الوضوح هذه المرة، بعد أن كان كلامه يتّسم أحيانًا بالغموض المتعمّد، ويحتمل أكثر من معنى (ويقينى أن هذا كان مقصودًا أيضًا)، لكن رسالته الآن حاسمة وقاطعة «مافيش حد هيشيل حد، ولا يجب أن يفكر أحد أن الحل بالجيش، وعليكم أن لا تغضبوا»، وهى رسالة أظنّها موجهة بالأساس إلى قوى المعارضة التى عوّلت كثيرًا، فى الشهور الأخيرة، على «الحل» الذى يأتى على يد الجيش، للتخلّص من حكم وهيمنة وسيطرة وتمكين جماعة «الإخوان» على البلاد والعباد، لدرجة أن معظم قيادات تلك المعارضة أسهبوا فى الحديث عن إنقاذ البلاد على يد القوات المسلحة، بل وبدأ بعضهم يتساءل علنًا، ربما بدافع اليأس أو العجز عن مواجهة خطة «تمكين الإخوان»، عن: متى ينزل الجيش؟
لم أتفاجأ أيضًا، لأننى كنت أقرأ وأحلّل تصريحات و«رسائل» الفريق السيسى، خلال الشهور القليلة الماضية، بشكل مختلف، وعلى أكثر من مستوى، وأجد فيها، أولًا، نوعًا من بث الحماسة وإعادة الثقة إلى قادته وقواته ورفع روحهم المعنوية، وهذا كان مطلوبًا بشدة بعد أن تدهورت تلك الروح نتيجة تورّط نحو ثلث قوات الجيش فى أوحال مستنقع السياسة لعام ونصف العام.
كنت أجد، ثانيًا، فى تلك التصريحات ما كان يراه بقية المتابعين والمراقبين، من «إشارات إنذار وتحذير» يرسلها إلى جماعة الإخوان، بأن الجيش يقف بالمرصاد لهم ولبقية التيارات المتحالفة معهم، ضد محاولات الاستفراد بحكم الدولة المصرية، واستكراد الشعب عبر إقصاء وتهميش باقى طوائفه وفئاته وقواه الحية. وكنت أقر، مثل سائر المتابعين، بأن تلك الرسائل كانت تخيف «الإخوان»، وتجعلهم يتراجعون قليلًا عن تصريحات قادتهم وكوادرهم، خصوصًا المناوئة للجيش.
لكننى كنت أجد فى «رسائل» الفريق السيسى جانبًا سلبيًا شديد الخطورة، فهى كانت مثل «المخدر اللذيذ» الذى يسرى فى أجساد الناس، خصوصًا قوى المعارضة والشباب الثائر، ليجعلهم كسائر المخدرين يحلقون فى أحلام وأوهام الخلاص على يد الجيش، فهو بات المنقذ الوحيد أمامهم، بعد أن عجزوا عن مواجهة مخطط «الإخوان» الذى ينتشر ويتمدّد ويتوغّل. من هنا جلس الثائرون والمعارضون فى بيوتهم، انتظارًا لـ«هبّة» الجيش الساحقة الماحقة ضد الإخوان، على طريقة قوم موسى عليه السلام، إذ قالوا له «إِنَّا لَن نَدخلَهَا أَبدًا ما دَاموا فيها، فاذهب أَنت وربُّك فقاتلا إنَّا هاهُنا قَاعِدُونَ».
لكن السؤال المهم هنا: هل رسائل قائد الجيش، وتحذيراته السابقة، ستردع «جماعة الإخوان» عن مخططها المحتوم، الذى ترى أنها لا يمكن أن تتمكن من حكم مصر إلا بتحقيقه، وهو السيطرة على الجيش، أو على الأقل تحجيم قدرته على التدخل؟ الإجابة القاطعة الحاسمة هى: لا طبعًا. فتنظيم «الإخوان» لن يتخلّى أبدًا عن مخطط إبعاد الجيش تمامًا عن المعادلة السياسية الراهنة، فهم يراهنون على فشل المعارضة وخلافاتها، وبالتالى متأكدون أن الجيش هو القوة الحقيقية الوحيدة القادرة على التدخل إن لزم الأمر، وبالتالى يجب تحييده. ومن هنا كان مخطط نثر ونشر الشائعات عن تورّط الجيش فى عمليات تعذيب وقتل الثوار، سواء خلال الأيام الأولى للثورة أو عقب تنحى مبارك، والتصريحات العدائية التى يطلقها بين الحين والآخر بعض كوادر «الإخوان» أو قادة التيارات الجهادية المتحالفة معهم ضد القوات المسلحة، أو قائدها العام الفريق عبد الفتاح السيسى، وآخرها كلام «الأخ» حازم أبو إسماعيل أن السيسى مثل «الممثل العاطفى».
«الإخوان» يحاولون «شيطنة» الجيش، وسيكررون محاولاتهم وفق مخطط مرسوم بدقة، فهم يسعون إلى تطبيق التجربة التركية الأردوغانية، التى نجح فيها رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، فى إلغاء هيمنة جيش بلاده على الحياة السياسية هناك. لكن الجيش التركى كان «شيطانًا» وفاسدًا بالفعل، وإزاحته كانت ضرورية لتقدم البلاد ونهضتها الحالية. فهل تنجح «جماعة المقطم» هنا فى تنفيذ مخططها؟
الإجابة عند الفريق السيسى، الذى قال نصًّا «الجيش نار لا تلعبوا به، ولا تلعبوا معه»، لكن يا ترى لمن الرسالة؟