ايجى ميديا

السبت , 2 نوفمبر 2024
ايمان سمير تكتب -وقالوا عن الحرب)مني خليل تكتب -اثرياء الحرب يشعلون اسعار الذهبكيروش يمنح محمد الشناوي فرصة أخيرة قبل مواجهة السنغالايمان سمير تكتب -عيد حبعصام عبد الفتاح يوقف الحكم محمود بسيونيمني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الرابعالمصرى يرد على رفض الجبلاية تأجيل لقاء سيراميكا: لماذا لا نلعب 9 مارس؟مني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الثالثمني خليل - احسان عبد القدوس شكل وجدان الكتابة عنديالجزء الثاني / رواية غياهب الأيام كتبت / مني خليلإحاله المذيع حسام حداد للتحقيق وإيقافه عن العملتعاون بين الاتحاد المصري للدراجات النارية ودولة جيبوتي لإقامة بطولات مشتركةغياهب الايام - الجزء الاول - كتبت مني خليلاتحاد الكرة استحداث إدارة جديدة تحت مسمى إدارة اللاعبين المحترفين،كيروش يطالب معاونيه بتقرير عن فرق الدورى قبل مباراة السنغال| قائمة المنتخب الوطني المشاركة في نهائيات الأمم الأفريقية 🇪🇬 .... ⬇️⬇️اللجنة الاولمبية تعتمد مجلس نادي النصر برئاسة عبد الحقطارق رمضان يكشف سر عدم ترشح المستشار احمد جلال ابراهيم لانتخابات الزمالكنكشف البند الذي يمنع الدكتورة دينا الرفاعي من الاشراف علي الكرة النسائيةوائل جمعة نتتظر وصول كيروش

من مذكرات قاتل غير محترف

-  

(1)
يَا لَيتَنِي حَجَرٌ

لا أَحِنُّ إلى أَيِّ شَيءٍ

فَلَا أَمْسُ يَمْضِي، ولا الغَدُ يَأتِي

ولا حَاضِري يَتَقدَّمُ أَو يَتَرَاجَعُ

لاَ شَيَّء يَحْدُثُ لِي ...

(2)
سارينة الإسعاف تدوي من بعيد.
تتوتر الأجواء. الممرضات وعمال الأمن يتجهون نحو الباب. أوقظ زميلي النائم في الاستراحة. أرتدي البالطو الأبيض الذي كنت قد خلعته استعداداً للمغادرة.

أنتظر مجموعة أصوات الموت المعهودة: صوت الفرملة الحادة - أصوات المسعفين ينادون عمال أمن المستشفى - صوت فتح الباب المخصص للإسعاف - صوت اصطدام عجلات التروللي بالأرض - أصوات بكاء وصراخ الأهالي.

سارينة الإسعاف تقترب.. فأنتبه لوجود سارينة أخرى غير مألوفة تصاحبها هذه المرة.

 (3)
كم تغيرت!
تجلس في الاستقبال تغالب نومك. «النباطشية» من التاسعة مساء حتى التاسعة صباحاً. بقى نصف ساعة فقط على النهاية.

تسمع سارينة الإسعاف فتشعر بالضيق الشديد وتتمنى لو كانت تأخرت حتى تنصرف، ليتولى زميلك المهمة.

كم تغيرت!
منذ فترة غير طويلة كنت أول من يجري إلى سيارة الإسعاف، وكنت تتطوع فوراً بالذهاب مع المريض لو احتاجت حالته الانتقال بكل حماس دون أن يطلب أحد.

ذهبت حماسة البداية وبراءة البداية، أو كادت.

كانت أيامك الأولى في المستشفى عذاباً مقيماً. تلقائياً تضع نفسك مكان كل مريض يأتي لتشعر بآلامه بالضبط. لا يمكنك النظر في وجوه الفقراء أو المتألمين. تتأخر أشهر عن كل زملائك في تعلم عمل «الغرز» لأنك لا تتحمل أن ترى الألم الذي تسببه. دائماً يضحك رفاقك وأساتذتك حين تخبرهم بالسبب الحقيقي، فتتوقف عن إخبارهم به وتكتفي بالتهرب. يضحكون ويقولون «هتتعود».

تجري من مريض إلى مريض، لديك هَوَس حقيقي بألا يشعر أي مريض بأي تأخير، تبتسم دائماً في وجوه الجميع، تتعرف على المرضى وتستمع لهم وتمازحهم وتلاعب أطفالهم، ثم تفاجأ بأن 12 ساعة قد مرت دون أن تجلس أو تأكل.

يستغرب زملاؤك من استعجالك الشديد لهم أو للممرضات لو طلب أي مريض أبسط شيء. يقول زميلك «هتتعود».

 

اليوم انتهى كل ذلك. مازلت تعمل بجد لكنك أصبحت تقسم ساعات «النباطشية» مع زملائك، وتحاول قدر الإمكان تقليل زمن وجودك. الابتسامة اختفت، فقط وجه محايد. الاستعجال المبالغ فيه انتهى. لن يتضرر أحد لو انتظر ربع ساعة مادامت حالته غير خطيرة، وحتى أغنى الناس قد ينتظرون بالساعات في العيادات.

ضبطت نفسك عدة مرات تشعر بالغضب من بعض الأهالي أو المرضى إذا أساءوا معاملتك. ليسوا كلهم ضحايا بشكل مطلق، وأنت مثلهم إنسان تحتاج المال والراحة والاحترام.

تدرك أنك بدأت مسيرة التعود بالفعل ولا تدري هل ستتوقف هنا أم ستكمل. تشعر بالخوف. التعود يقتل كل شيء.

تتذكر صديقك الذي تولى منصباً إدارياً صغيراً منذ أشهر، وتحدث معك بصراحة عن التغيير الذي يحدث ببطء وتدريج، ثم تُفاجأ به لو كنت واعياً له فتحاول مقاومته، أو لا يكون لديك الوعي فلا تشعر بحدوثه أصلاً.

حكى صديقك عما يفعله الكرسي الوثير والمكتب والسكرتارية. فوجئ بنفسه يبدأ في الشعور بعلوه على موظفيه، هو الأقدر والأعلم بالمصلحة. وجد نفسه يفضل من يطيعونه، ويستاء ممن يعارضون أو حتى يكثرون الكلام. أصبح يشعر باستمرار أنه يفعل أفضل ما يمكن، ومن يشتكي هو المخطئ لأنه لا يدرك كل الأبعاد التي يراها.
أدخل لحديثه مصطلحات ثورية ودينية وهو واع تماماً أنه يتعمد ذلك للتأثير في مرؤوسيه، والمزايدة على منافسيه على المنصب لا أكثر.
 

صديقك يملك الوعي لذلك شعر بالتغيير وتعمد أن يقاومه بأن يجبر نفسه على أفعال معاكسة لما يشعر به. من المرعب التفكير في من لا يملك الوعي، ويتولى مناصب أعلى بكثير ولفترات أطول بكثير.

التعود يقتل كل شيء.

(4)

«مش فاضل غير ده اللي هنتعب عشانه! سيبوه يموت أحسن»

يقولها زميلي بحسم قاطع.

كانت الحالة لشاب صغير لا يزيد عمره على 18 عامًا، مصاب بكسر في يده وكسر في قاع الجمجمة، وكانت السارينة الأخرى لسيارة شرطة أتت مع سيارة الإسعاف.

قال السادة الضباط إن هذا الشاب لص كان يتسلق مواسير إحدى العمارات لسرقة شقة، حين شاهده أحد الجيران وصاح عليه، ففقد توازنه وسقط.

كسر في قاع الجمجمة يعني الغيبوبة، ويعني الحاجة لمكان في العناية المركزة وهو أمر مستحيل كالعادة، وكذلك جهاز أشعة مقطعية وهو معطل منذ جئت للمستشفى كالعادة، وكذلك طبيب متخصص في جراحة المخ والأعصاب وهو تخصص غير متاح بوزارة الصحة كالعادة!.

أتطوع بالذهاب في سيارة الإسعاف مع الحالة ومعنا مخبر من القسم، وكالعادة نتوه وسط المستشفيات، ولا نجد أماكن رعاية مركزة وأحياناً لا مكان ولا جهاز أشعة أيضاً.

من مستشفى إمبابة العام لمستشفيات قصر العيني والدمرداش الجامعي وسيد جلال الجامعي والحسين الجامعي والساحل التعليمي.

في أولى محطاتنا بقصر العيني، ركب الزملاء للشاب جهاز تنفس صناعي يدويا، وهو عبارة عن أنبوب يدخل القصبة الهوائية بينما يتصل من الخارج ببالونة بلاستيكية، أضغط عليها بيدي لأملأ صدره بالهواء كالشهيق، ثم أتركها لينطلق الزفير.

قلت للزملاء إن تنفسه الطبيعي ممتاز حتى هذه اللحظة، ولو بدأنا التنفس الصناعي سيكون مفروضاً علينا أن نستمر فيه، ولا أضمن أن نجد قريباً جهاز تنفس صناعي إلكتروني "فينتليتور"، لكنهم قالوا إن هناك خطراً قائماً أن يتوقف تنفسه الطبيعي بعد فترة لو كان هناك تأثير على مركز التنفس بالمخ، أو أن تسد الدماء مسار الهواء.

نتنقل بين المستشفيات بينما أضغط بيدي على البالون، وأسمع صوت أنفاس الشاب العالية المتحشرجة، وأسمع أيضاً من الأطباء والممرضين والناس العاديين من مرافقي الحالات:

«ده حرامي .. سيبوه يموت»، «إزاي تاعب نفسك كده عشان حرامي؟», «المكان اللي هياخده ده ياخده واحد تاني أولى».

أتصل برقم 137، رقم طوارئ وزارة الصحة الذي من المفترض أن يرشدني إلى المكان المتاح، فيرفض محدثي مجرد الاستماع أصلاً مادمت طبيب امتياز. أغلق الهاتف وأعاود الاتصال منتحلاً صفة النائب، فأكتشف أن محدثي المتعجرف مجرد موظف لا يفهم حرفاً من مصطلحاتي الطبية! أحدثه بالعربية، ونغلق الخط على وعد بالاتصال لو وجد مكاناً.

***

أنظر للشاب الممدد أمامي. ملامحه طفولية، ولا يوجد أي جروح قديمة على وجهه. ليس هذا هو الشكل المألوف «للبلطجية» كما يسمونهم. حافي القدمين وملابسه رثة حرفياً. رخيصة وممزقة ومخيطة ومرقعة في أكثر من مكان.
 

أرى بعين خيالي مشهداً آخر:

سائق «توك توك» أو بائع متجول أو متسول أو مجرد مار بالصدفة، استوقفته «اللجنة» وطلبوا منه تصريحاً ما أو بطاقة، ثم ارتكب ما استفز «الباشا»، تباطأ في تنفيذ الطلب، أو رد على شتيمة الباشا لأمه، فيصاب الباشا بنوبة الجنون المعهودة التي تنتهي بالشاب غارقاً في دمائه، بينما يعود الباشا لوعيه ليفكر في حل للخلاص من هذه المصيبة.

نفس القصة تكررت كثيراً مع تغيير الأسماء وبعض التفاصيل فقط، ولا يوجد ما يمنع كوني أشاهد آخر فصولها الآن.

 

وهناك مشهد آخر أراه:

الفتى لص فعلاً، لكن توسيع الرؤية يجعلني أراه في مشاهد أخرى بالإضافة لمشهد تسلق العمارة. أراه ساكناً في منطقة عشوائية، مولوداً لأب عاطل أو متعاطي مخدرات أو «أرزقي»، وأم تبيع المناديل. أراه يتعرض لعنف شديد من أبيه ومن صاحب الورشة الذي عمل صبياً لديه ومن الشرطة. فقر وجوع وعنف، لا تعليم ولا عمل ولا نقود ولا أمل.
 

«واحد مصاحب علي علوكة وأشرف كخة، عايزينه يطلع إيه؟ طيار؟»

العبارة مضحكة في الفيلم، لكن التفكير فيها يشعرني بمدى مأساويتها. شاب بهذه الظروف وُلد لهذه العائلة في هذه البيئة وهذه الدولة، عايزينه يطلع إيه؟ طيار؟.

***

نعود إلى حيث بدأنا: مستشفى إمبابة العام.

يخبروني بما أعرفه: لا يوجد جهاز تنفس صناعي إلكتروني ليتم وضع الشاب عليه. «إنت عملت اللي عليك، خلاص سيبه لنصيبه».

ببطء تدرك الصورة المرعبة: لو تركت الجهاز لن يتولى أحد غيري مهمة تشغيله. حياة الشاب معلقة الآن حرفياً على استمرار ضغطي على هذا البالون.
 

(5)

لَيتَ الفَتَى حَجَرٌ ...

(6)
تضغط على البالون، ورغماً عنك تجد عقلك يفكر في جدوى ما تفعل.

هل سيشكل إنقاذه فارقاً أصلاً؟

تعرف جيداً أن آلافاً بلا حصر يموتون سنوياً في المستشفيات الحكومية، وأن النسبة تزيد باستمرار. عام 2011 وحده شهد وفاة أكتر من 20 ألف حالة.

كل يوم وكل لحظة يموت بشر كان يمكن إنقاذهم سواء في المستشفيات أو خارجها، وكل يوم وكل لحظة هناك فقر وجوع ومرض وألم.

هذا البلد به 11 مليونا يعيشون في العشوائيات، منهم مليون ونصف يعيشون في المقابر. هذا البلد به مليون ونصف من الموتى الأحياء يجاورون الموتى الأموات.

مهما فعلت في الطب أو الكتابة أو أي مجال، هل يمكنك إحداث أدنى تغيير في الواقع؟

التعود يقتل كل شيء .. وكذلك العبث.

 

تضغط على البالون وتفكر رغماً عنك: في هذه الظروف هل حقاً لا يمكن التمييز بين إنسان وإنسان؟
ما الذي تضيفه حياة هذا الشاب لأي شخص أو له شخصياً؟هل هو نفسه مهتم بالحفاظ عليها؟هل حياته حياة أصلاً؟
«مش فارقة كده ولا كده ميت» تذكر جيداً العبارة التي قالها الشاب أمام قسم السيدة زينب أثناء الثورة.

التعود يقتل كل شيء .. وكذلك المأساة.

(7)

فَالنَاسُ مِنْهَ ولِا لحَيَاة،

مَوتَى عَلَى قَيّدِ الحَيَاةْ ..
 

(8)

موظف مكتب طوارئ الوزارة يتصل بعد ساعتين ليبشرني بتوفر مكان في أحد مستشفيات «الأمانة العامة» مرتفعة التكلفة، التي لا تقبل مريضاً بهذه الحالة إلا بعد دفع آلاف الجنيهات. أخبره بأن المريض ليس معه أهل، فيرد باقتضاب إنه لا يمكنه مساعدتي ويغلق الخط.

 

أستمر في الضغط على البالون آملاً أن تحدث المعجزة ويفيق الشاب.

لو سمحت افتح عينيك، أرجوك افتح عينيك... لكنه لا يفتحهما.

الدماء في الشوارع، على الأسفلت، على الرصيف، ودماء الشاب على البالطو الذي لم يعد أبيض، وأنا أضغط.

تنفجر رأس شاب آخر تحت مدرعة الأمن المركزي، وتنفجر رأس أخرى برصاصة، ورأسي تكاد تنفجر من الصداع، وأضغط.

مرسي يعد أنه سيرفع ميزانية الصحة إلى 12% من موازنة الدولة، لكنها تبقى كما هي 4.7%، ومبارك يعد برفع مستوى المواطن محدود الدخل، وأنا أرفع بيدي الأخرى زجاجة المحلول، وأضغط.

 

أطباء الإخوان يهتفون في وجه ممثلة الجهاز المركزي للمحاسبات في جمعية النقابة «فلول .. فلول!»، وأحدهم يشتم د.منى مينا، وأنا أشتم السياسيين والبلد والمستشفى والكلية والظروف والعالم ونفسي، وأضغط.

زكريا عزمي وصفوت الشريف في منزليهما، وحسن مصطفى في السجن، وأنا في المستشفى، وأضغط.

تميم يقول «لما تشوف الشهيد تبقى السلامة خجل»، لكن أحداً لا يخجل من أنه سليم أو غني، وأنا أخجل من أن أترك مكاني، وأضغط.

درويش يتمنى أن يكون حجراً، وأمل دنقل يتوسل لمن يقتل أطفاله المساكين كي لا يكبروا في الغد شحاذين، وينادي الواقفين على حافة المذبحة، وأنا واقف على حافة سرير مريضي المجهول، وأضغط.

 

أشعر بالآلام في أصابعي ورسغي ورأسي وعيني، وأضغط وأضغط وأضغط.

لو سمحت افتح عينيك، أرجوك افتح عينيك... لكنه لا يفتحهما.

فجأة بلا تفكير أو قرار أجد نفسي أترك الجهاز والمكان كله. أشاهد ممرضة أعرف جيداً أنها كانت أول من قال «سيبوه يموت»، لأنه حسب تعبيرها من «الناس الزبالة». أخبرها باقتضاب وأنا لا أنظر إليها أني تركت الحالة، وأطلب منها أن تذهب لإكمال تشغيل جهاز التنفس.

أعرف يقيناً أنها لن تفعل، وأن الشاب سيموت في اللحظات القادمة اختناقاً. سيزرق وجهه تدريجياً، ويتشنج، ويرتجف، ويصدر حلقه أصواتاً مريعة، وتخرج الرغاوي الزرقاء والحمراء من فمه، ثم يسكن إلى الأبد.
أنا قاتل...
 

أذهب لغرفة أطباء الامتياز، أنام فوراً، أحلم بكوابيس، أستيقظ مفزوعاً بعد ساعة واحدة ، أقفز من السرير إلى مكان الحالة فلا أجدها، أسأل الممرضة
فترد ببساطة: «قصدك الحرامي؟ ده مات وراح التلاجة».

أنا قاتل...

 

لمزيد من الجرائم:

الأسباب الطبية لتكفير الدولة المصرية

http://www.almasryalyoum.com/node/1163196

 

 

التعليقات