هما فريقان فى الواقع وليسا واحدا، وإن أحببت أن يجمعهما ذات المقال، عامدا متعمدا، أتحدث عنهما بعيدا عن أية مناسبات، لأن الحديث عنهما ليس فى حاجة إلى أى مناسبة تحفل بعبارات متحفية مكررة.
أولهما هو الفريق سعد الدين الشاذلى، فارس فرسان مصر الذى نسيناه فى عيده، وما كان لنا أن ننسى. عبقرية عسكرية مصرية فذة نادرة رفيعة المستوى عالية الخلق والقيم والمبادئ يندر أن تتكرر، هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة مهندس العملية العسكرية المصرية العبقرية فى حرب أكتوبر ونجم نجومها، تلك العملية المصرية الخالصة التى بهرت العالم وقلبت التاريخ كله فى عدة ساعات. هو القائد الوحيد خلال نكسة 67 الذى دخل بقواته إلى داخل إسرائيل ويتمركز فيها ليجن جنون الإسرائيليين، محاولين العثور على قواته وإبادتها، وفشلوا، لتكون قوات الشاذلى هى آخر قوة عسكرية مصرية دخلت إسرائيل، وآخر قوة عسكرية خرجت من سيناء فى تلك الأيام وبأقل الخسائر. فى أثناء إعداده لحرب أكتوبر، احتار الشاذلى فى كيفية التغلب على الحائط الترابى المرتفع الذى أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية، كان ذلك الساتر العنيد يتوسط عقبتين، تسبقه مياه القناة بتياراتها القوية وأنابيب النابالم الحارق المسددة تحت مياهها، لتكون هى وحدها عقبة مستحيلة، ويتبعه خط عسكرى حصين ممتد مرتفع هو الأقوى فى التاريخ، وخلف كل ذلك منصات دبابات جاهزة للتقدم، وبين العقبتين المستحيلتين يرتفع ذلك الساتر من الرمال الناعمة عشرين مترا لأعلى، ارتفاع مبنى من سبعة طوابق على طول القناة، ولكنهم لم يدركوا أن على الجانب الآخر يوجد مصريون! لم تفلح تجربة ضرب الساتر بالقنابل التى ما إن تحدث فجوة فيه حتى تنهال رماله الناعمة لتتراكم ثانية داخلها. أوفد سلاح المهندسين السورى ضابطا سوريا لديه فكرة تصميم وبناء كوبرى بمفصلات يرتفع بزاوية مائلة من منتصفه ليعتلى قمة الساتر، وفشلت الفكرة، إلى أن أبدع ضابط مهندس شاب فكرته العبقرية بأن يكون التعامل مع ذلك الساتر بالماء لا بالنار، وبذكاء حاد يوفد السادات «وزير الزراعة» إلى ألمانيا لشراء طلمبات ماء ذات ضغط عال، ويستغرب الألمان الوزير الذى يصر على شراء طلمبات لا تحتاجها الزراعة فى مصر، وأخيرا «أخذوه على قد عقله» وباعوا له ما أراد لتقشعر أبدانهم ذهولا بعد ذلك وهم يتفرجون مشدوهين على طلمباتهم القوية فى يد العبقرية العسكرية المصرية. وتبدأ قافلة الشهداء، يفتتحها اللواء شفيق مترى سدراك أول ضابط مصرى على الإطلاق يستشهد فى حرب أكتوبر، أما كيفية استشهاده فهذه قصة أخرى، فقد استشهد لأنه لم يطق صبرا على سرعة حركة كتيبة المشاة التى يقودها بنفسه فسبقها لعمق سيناء يقاتل وحده! بطوله! إلى أن استشهد. وليكون شقيق رئيس مصر من بين أول شهداء نسورها بعد أن دمر بقاذفته مع زملائه مطار المليز وسوّاه بالأرض. فريقنا الأول سعد الدين الشاذلى رحمه الله كان رجلا عسكريا صارما، مصريا مؤمنا، إنسانا عظيما، بطلا نادرا عشقه رجاله. أقولها بقلب يمتلئ بالأمل فى بكرة القادم، تعلموا من تاريخكم واعرفوا قدركم يا مصريين، تعلموا أن كلمة اليأس لا مكان لها فى وادى النيل مهد الوجود، اعلموا أن النور يأتى من قلب الظلام مهما كان سواده، اعلموا أنه لا وجود فى مصر لكلمة مستحيل، لأنها مصر صاحبة المجد صانعة المجد، ذات الشعب المتخصص فى صنع ما لا يقدر عليه باقى بنى البشر، شعب مؤمن صاحب معجزات بالتخصص، اعلموا أن مصر قادمة. أما الفريق الشاذلى، فلا أحسبه بحاجة إلى تكريم فى الدنيا وقد نسيناه، فهو فى هذه اللحظة يكرمه الله فى السماء، نتذكره لا لكى نكرّمه هو، ولكن لكى نكرّم نحن أنفسنا به. أما الفريق الثانى فهو الفريق عبد الفتاح السيسى قائد جيش مصر. يدافع الفريق السيسى عن المشير طنطاوى ومجلسه العسكرى الذى جر البلاد والثورة إلى مأزقها والذى استباح دم المصريين، أهمس له قائلا يا سيادة الفريق يمكننى أن أتفهم وفاءك لقائدك، ولكن الشاذلى لم يتردد لحظة فى الوقوف لقيادته فى ما ظن أنه الحق، وأنا لست فى حاجة إلى أن أسوق دليلا لك عليك خيرا منك أنت شخصيا على الفارق الذى عنه أتحدث، فأنت دون غيرك حجتى عليك! لقد أعلن الفريق السيسى مبكرا حظر تملك أراضى الشريط الحدودى لسيناء لكى يسيطر على فوضى الحدود وتهريب السلاح والأفراد إلى داخل مصر، وقف الفريق السيسى بالمرصاد لمهزلة الأنفاق رغم أنف إخواننا إياهم بصلابة وحسم ودون تردد، تصدى الفريق السيسى لمحاولات إخواننا النيل من جيشنا أو التشكيك فيه، أعلنها صريحة أن قناة السويس خط أحمر أمام كل من سولت له نفسه أن يعرضها فى المزاد، ظنا منه أنها تباع وتشترى ليخوض حرب أشباح صامتة شرسة فى قلب سيناء ضد عدو خفى قاس، ليخرج علينا بعد ذلك بسمرته المصرية وابتسامته المصرية الطيبة ليقول لنا «ماتخافوش على مصر»، لتمس شغاف قلوبنا وتهبط علينا بردا وسلاما، فنأمن بكلماته ونطمئن، لم تجذبه السياسة بأحابيلها عن واجبه، فلم يحد عن طريقه ولا ملليمتر واحد، لم يمد يدا على مصرى طوال عهده وحتى فى ظل أحلك لحظات «ساعة الحظر الخيبان إياه»، باختصار حافظ السيسى وصحبه على سيناء التى حررها الشاذلى وصحبه، وحافظ معها على مصر كلها، ثم يقف قائد جيش مصر بقوامه العسكرى الرياضى الممشوق ليقول لنا أن جيشنا شريف، وأن شرفه هو سر قوته، وما أروعها من كلمات أضيف لها أن شرفه هو أيضا سر عظمته وعبقريته عبر التاريخ. هما إذن فريقان وليس واحدا، أب يحرر.. وابن يحمى. أب يورّث ابنا، وابن يخاطب أحفادا يصفهم بأنهم أولاده، ليتواصل جيش مصر سلسال شرف فوق شرف عابرا للأجيال. هل فاتنى أن أذكر من كان صاحب فكرة تدمير الساتر الترابى، ذلك الذى لولاه لما تمكن جيش مصر بأسره من دخول سيناء؟ هو بالمناسبة حى يرزق يعيش بيننا فى صمت، بعد أن أدى واجبه، دون أن يبحث عن مجد هو أحق به من كثيرين جدا، إنه النقيب باقى زكى يوسف، احفظوا اسمه وابحثوا عنه، آه..! نسيت أن أقول لكم إنه مسيحى.