ربما كانت لكل ثورة وجوه أربعة، كما ذكرت فى مقال الأسبوع الماضى: الشباب، والتيار السياسى الأكثر تنظيما وقدرة، والإصلاحيون من المعارضة القديمة للنظام السابق، والفوضويون من كل نوع آثم، أو يظن فى نفسه خيراً.
هذه «التوليفة» وجدت فى كل الثورات المصرية التى عرفناها خلال القرنين الماضيين. وفى العادة فإن هذه القوى المختلفة تصبح أمام واحد من مصيرين: الائتلاف على صورةٍ ما للمستقبل أو ما يسمى التوافق على خريطة للطريق، وبزوغ قوة وحيدة مانعة وقاهرة لكل القوى الأخرى، ولها زعيم تلتف حوله أو مكتب سياسى يقوم بدور الزعامة، وتوليد الحكمة القادمة من أيديولوجية محكمة تفسر كل شىء، وتعرف الأسماء كلها، ولها من العلم والمعرفة ما يكفى البلاد وبلداناً حولها.
الأمر هكذا يصير عملية اختيار إنسانية يعتاد المفكرون والكتاب البعد عنها، حينما يرون حركة التاريخ كنوع من القدر المحتوم والقضاء النافذ، وعندما لا نجد لا هذا ولا ذاك، ونعجز عن التفسير، فإن الحيرة تكون غلاّبة. انظر إلى وجهتى نظر فى الأمر: الأولى قال بها الأستاذ على سالم، فى مقال بالشرق الأوسط الغرّاء أن الإنسان حينما يستيقظ فى الصباح، فإنه يأتى إلى المستقبل بالضرورة، لأنه من المستحيل أن يجد نفسه مواجها بالأمس. المستقبل يأتى حتى لو لم نعرف أنه أتى. الثانية قال بها الأستاذ محمد حسنين هيكل، فى محاضرة بالدوحة، حينما وصف أحوالنا بأننا نعيش حالة ولادة متعسرة بين ماض لم يقتنع بالانسحاب، ومستقبل لم يعرف حتى الآن كيف يتقدم، وعليه فإن ما يجرى عندنا أشبه بعملية انسلاخ مؤلمة من زمان إلى زمان. القولان، من كان منهما على يقين، ومن كان فى حيرة بالغة، يتفقان على ما هو معلوم بالضرورة، فهل ما كان سيأتى غدا شيئًا آخر غير الغد؟ وهل كانت كل عمليات الانتقال فى التاريخ سوى انسلاخ مؤلم من زمن إلى آخر؟ توقيع ذلك على الحال المصرى ليس له ترجمة فى تجاربنا والتجارب العالمية الأخرى سوى التوافق أو الغلبة، ومعها الديكتاتورية. الأستاذ هيكل اختار الحيرة مرة أخرى، حيث الساحة فيها من يعرف كيف يتوضأ بالدم «الغلبة»، ولكن ليس فيها من يعرف كيف يصلى صلاة الجماعة «التوافق».
ولكن الصورة المصرية منذ ثورة يناير جربت محاولة التوافق التى حدث بعضها فى مؤتمرات استُدعى لها ما كان مدهشا- مَن كانوا أصحاب مكانة فى النظام القديم، فتولى واحد «الدكتور يحيى الجمل» الذى كان وزيرا فى عهد الرئيس السادات، وتولى الدكتور عبد العزيز حجازى الذى كان رئيسا للوزراء فى العهد نفسه محاولة أخرى. تركت المحاولتان أوراقا كثيرة، تفاعلت مع أشكال معتبرة من الصراع السياسى حتى انتهت إلى استفتاءات وانتخابات برلمانية ورئاسية. ولكن من يتوضأون بالدم كانوا أكثر ممن هم على استعداد لصلاة الجماعة، ومن ثم أصبحنا أمام عملية جدلية لا يموت فيها النظام القديم أبدا، بل يبقى كما بقيت الكنيسة الكاثوليكية، وكما ظل موجودا التاريخ الفرعونى لوضع البذور والحصاد، ولكن الجديد لا ينتظر ويأتى كاسحاً باحثاً عن توافق أو انتصار لطرف على أطراف أخرى. الواقع يتحرك، وفقا لقوانين الجدل الماركسية المعروفة، ولكنها دون طبقة عاملة، أو حزب شيوعى وإنما يحل محلها طبقات وشرائح اجتماعية ولدتها ثقافات وحضارات، وواقع موضوعى لم تجرِ فيه للصناعة طفرة، ولا ازدهرت فيه طبقة وسطى.
وسط هذا الضجيج التاريخى بكل تجلياته تظهر علامات للديكتاتورية بعضها يأتى بشكل طبيعى عندما يختل التوازن السياسى لصالح جماعة على حساب الجماعات الأخرى بالغلبة فى الشارع أو فى صناديق الانتخاب، وتجد الجماعة الأولى فرصة لكى تبقى على القمة أبداً بزعامة لا تخطئ لأنها ملهمة، كما كان عبد الناصر، أو بمشروعٍ ما، له رنين تخليص البلاد من كل الشرور. وفى وقتٍ ما، كان ذلك المشروع هو السد العالى، وفى أوقات أخرى كان ممر التنمية، والآن مشروع تنمية إقليم قناة السويس. وعند هذه اللحظة يبدأ تفكيك الماضى ومسحه إن أمكن، وفى وقت، كان فيه المؤرخون المصريون يلعنون ثورة عرابى، لأنها تسببت فى احتلال البلاد من البريطانيين، وفى وقت ثورة يوليو جرى لعن الأسرة العلوية وبكواتها وباشواتها. ثورة يناير لم تقرر المصير بعد وما إذا كانت اللعنة واجبة على ستين عاما من القهر، أو يكفى أن يتحمل مبارك ونظامه اللعنة كلها، ولكنها تعرف أن تفكيك التاريخ هو أمر لا بد منه وإلا لباتت مشروعية الثورة لدى المتحمسين لها يسارا ويمينا- لا وجود لها.
آليات التفكيك أوضحها «جورج أورويل» منذ عام ١٩٤٩ فى كتابه الأشهر عن الديكتاتورية ١٩٨٤، فالتاريخ لا تتم إزالته فقط من الكتب المدرسية أو أسماء المنشآت الرسمية، وإنما يتم الاستيلاء عليه، فما تم صنعه جرى بعد الثورة الجديدة، ولذلك يصير من المحرمات أو من الأمور المستهجنة المقارنة رقميا بين النظام القديم والآخر الجديد. وكما كان يفعل النظام القديم، تجرى كراهية المقارنة بالدول الأخرى التى تماثلنا فى العدد والظروف أو بالطبع المقارنة مع الدول التى سبقتنا منذ وقت بعيد. الأدوات بعد ذلك معروفة ومسجلة فى التاريخ الطويل للبشرية، حينما جرى تغيير البنية القانونية، بحيث تجرى المشروعية فى دماء النظام، ويصبح «الإرهاب» القانونى كافيا لميل بشر للاتباع وحتى العبودية، خاصة إذا ما رافق القانون أجهزة أمنية تفتش فى العقول والضمائر، ومدربة وجاهزة بالعنف والقسوة لطاعة المسيطر أو «الأخ الأكبر».
لحسن الحظ أننا لم نصل بعد إلى هذه النقطة، ولكن هناك من يدفع فى اتجاهها، وربما لم تكن هناك صدفة عندما بدأت جماعة فى حث الجيش على التدخل مرة أخرى لإدارة الدولة، وربما كان فى ضعف عموم الدولة ما يغرى بالعودة إلى شكل من أشكال نظام يوليو. ولم تكن هناك صدفة أيضا فى أنه داخل جماعة الإخوان، وبشكل أكثر إلحاحا داخل جماعات سلفية وجهادية متطرفة، من يريد أن يكون الأمس البعيد هو صباح اليوم التالى. وربما لم يكن فى الأمر صدفة على الإطلاق، وإنما هو نتيجة توازنات قوى، أو نتيجة تخلى القوى المعنية بصلاة الجماعة عن دورها التاريخى فى تقرير مصير المجتمع، والخيار الذى يذهب إليه فى تحديد مستقبله. هل كان فى الأمر صدفة أخرى عندما ظلت الديكاتورية والاستبداد قائمين فى البلاد أثناء «الحقبة الليبرالية» اللهم إلا من سبع سنوات كان منها ثلاث سنوات أثناء الحرب العالمية الثانية، باختيار بريطانى فى حادث ٤ فبراير ١٩٤٢. فى تلك الفترة تمزقت النخبة السياسية بين حزب الوفد، وانشقاقاته المتعددة من سعديين وكتلة، والأحرار الدستوريين، وجماعات مدنية وليبرالية مختلفة لم تعرف كيف تتوافق على مصير للبلاد، فاستمر الاحتلال والاستبداد، وجاء إليهم «المتوضئون بالدم» لكى يرسموا طريقا آخر للبلاد.
الاختيار البشرى هنا مهم، وهو يتم أحيانا بالصمت، وأحيانا أخرى بقعقعة السلاح والعنف، وأحيانا ثالثة بصناديق الاقتراع النزيهة، وهى الحل الوحيد لصلاة الجماعة من أجل وطن وأمة.