من المسؤول عن إصابة المجتمع بانفصام فى الشخصية: حكامه وسياسيوه أم أهله وناسه؟!
قطعًا الجريمة.. أى جريمة هى فعل قبيح محمل بالشر والتآمر والخسة، لكن ثمة جرائم زاعقة، قدر الخسة والسفالة فيها يفوق قدرة النفس السوية على تصور وقوعها، وأن ثمة بشر يمكن أن يرتكبوها حتى لو دون قصد، فما بالك لو كانت بقصد؟!
وهذه الجريمة توقفت أمامها كثيرا، أقلبها فى عقلى يمينا وشمالا، ظهرا وبطنا، لعلى أجد ثغرة واحدة تبرر ارتكابها، ولم أعثر لها على «مبرر» واحد حتى لو كان واهيا متهالكا..
وحين عجزت عن العثور على تفسير «شبه إنسانى» تذكرت فيلما شهيرا اسمه (٨ مليمتر) لعب بطولته نيكولاس كيدج من أربعة عشر عاما، وأخرجه المتميز جويل شوماخر، عن محقق خاص يبحث فى جريمة اختفاء فتاة صغيرة، فيكتشف أنها اُغتُصِبت حتى الموت، وأنها ليست الجريمة الوحيدة التى ارتكبها «القاتل المغتصب»، وأن كل تلك الجرائم تمت من إجل متعة جمهور من الأثرياء، بعضهم يتابع عمليات الاغتصاب فى مسرح الجريمة، وبعضهم يشاهدها على شرائط ٨ مليمتر!
ليس هذا هو الأهم فى الفيلم، فالأهم جاء على لسان المجرم الذى يغتصب الفتيات الصغيرات بعنف بالغ، حين أمسك به المحقق الخاص: لم تحبسنى أمى وأنا صغير فى غرفة حقيرة وهى تمارس الجنس مع عشاقها، ولم تكن تضربنى وتكوينى بالنار حتى لا ألعب مع الفتيات، ولم أتعرض للاغتصاب، أنا أفعل ذلك لأننى استمتع جدا به!
عبارة تقفل كل «التفسيرات» التى حاول بها علماء النفس والتربية العثور على أسباب العنف المفرط فى نفوس مرتكبيها، أسباب تعود إلى أيام الطفولة والتشكيل.
عبارة تشى بأن الإنسان هو أكثر ألغاز الوجود تعقيدا وصعوبة فى العثور على كل مفاتيح «شخصيته»..
عبارة قد تكون لها علاقة بالجريمة التى أحدثكم عنها.. جريمة تدفعنى للتخلى لأول مرة عن مبدأ لا يجوز الخروج عليه فى النشر الصحفى، وهو ذكر اسم متهم بجريمة لم يصدر ضده حكم نهائى بات!
والمتهم المعترف بجريمته هو مصطفى درغام من مدينة الزقازيق، قتل الطفلة «بسلمة» فى السابعة من عمرها بعد أن اغتصبها أو فض بكارتها، والفارق كبير، ثم القى بها فى صندوق قمامة!
المدهش أنه جار لعائلة الطفلة، يبيع الفول والطعمية فى محل بالعقار الذى تسكنه، يعنى معرفة وعشرة وربما عيش وملح، والأكثر دهشة أنه نفى عن نفسه جريمة الاغتصاب، وقال: إنه فض بكارتها فقط بأصبعه!
ومصطفى هذا لم يكن هدفه اغتصاب «البنت»، ولم يفكر فيه، وإنما زاغت عيناه على مصوغاتها «حلق وسلسلة»، وسحبها بنعومة إلى بيته، لكن يبدو أن للشيطان أحكام مفاجئة وقدرات خاصة، أو أن الشر فيه طاقة مخيفة تحيل الإنسان من بنى آدم إلى بنى «وحش»، وإن كانت الوحوش تفترس ضحايا لأسباب تبدو أكثر معقولية!
كان من الممكن أن يسرق مصطفى البنت بسملة، تحت نوازع الحاجة والشر، وقد يخاف أن ينفضح أمره، فالبنت قطعا ستحكى لأهلها عما حدث، فيقرر قتلها حتى يطمس «الدليل»، كل هذا قد يكون مفهوما، لكنه غير مقبول، لكن لماذا فض بكارتها بإصبعه؟!.. ما هذا الفعل؟!، وما المتعة فيه؟!، هل هو عاجز وكان البديل إصبعه؟!
يصعب أن نعثر على إجابة، وقد يكون مستحيلا أن نقترب منها، خصوصا إذا عرفنا أن مصطفى اقترب من الخامسة والستين وعنده (أربع بنات) ويدرك فداحة ما يفعل.
هو نفسه لم يستطع أن يجيب أمام النيابة عن سبب اغتصاب البنت بإصبعه وقال كلاما شديد الغرابة، يشبه كلام المجرم فى فيلم «٨ مليمتر»: ما اغتصبتهاش والله العظيم. أنا فضيت غشاء بكارتها بصوابع إيدى، «مش عارف ليه..ربنا عايز كده».
ثم قال: «أنا لا سلفى ولا إخوانى.. أنا عارف ربنا وكنت أصلى»!
ألم أقل لكم إن الإنسان هو الأكثر تعقيدا فى هذا الكون الواسع..
بالله عليكم كيف يمكن أن نجمع تلك الكلمات فى عبارة واحدة : سرقة، اغتصاب، عارف ربنا، أصلى!!
عبارة غير مفهومة لا تقل غموضا عن دافعه فى فض بكارة البنت بإصبعه..
قد يكون الهوس الجنسى الشائع فى المجتمع هو السبب، فالجنس يبدو عبئا ثقيلا للغاية على أعصاب وخلايا مخ الرجل الشرقى، عبء يفجر فيه تصرفات وأفعال وأقوال «شاذة» للغاية..
وتخيلوا معى مجتمعا يتحدث أفراده فى الدين ليل نهار، لا يخلو فيه شارع أو زقاق من مسجد أو كنيسة، لا يجرى حوار دون ذكر الله أو الاستشهاد بآية من القرآن أو حديث نبوى، تكاد تحاصره عشرات القنوات الدينية بالوعظ والإرشاد أربع وعشرين ساعة فى اليوم، لا يكف شيوخه عن الكلام عن مكارم الأخلاق، ولا سياسيوه الجدد من سلفيين وإخوان وتيارات إسلامية عن «الشعب الذى يريد الإسلام حلا»، وبالرغم من ذلك تنتشر فيه جريمة التحرش الجنسى القبيحة كالنار فى الهشيم، وباء مخيف لم يحدث أن تفشى مثله من قبله!
قطعا هو مجتمع مصاب بانفصام فى شخصيته، يبطن غير ما يظهر، فيه قدر من الخلل السياسى والاقتصادى والاجتماعى يفوق الوصف، السؤال: ما هو الأصل فى انفصام شخصية المجتمع؟، هل حكامه وسياسيوه أم ناسه؟! من الذى نقل العدوى إلى الآخر: رجال السياسة أم العاديون من البشر؟!، هل ما صنعه العجوز مصطفى فى البنت بسملة من سرقة حليها وفك غشاء بكارتها بإصبعه وأنه «عارف ربنا ويصلى» هو جزء من حالة عامة سائدة فى جنبات الدولة المصرية، ولا نستشعر خطورتها بنفس الدرجة لأنها بلا جنس سافل؟!
كلام قد يبدو فيه بعض المغالاة والتجنى.. لكن لو دققننا النظر جيدا فى ما يحدث سنجد بلدا تُغتصب فعلا بأصابع اليد، لأن المغتصبين عجزة تماما ولا يصلح معهم أى علاج أو دواء، ولهذا لم يحاولوا الزواج الشرعى منها، فالزواج له قواعد وسنن وأصول وقوانين، لكن الاغتصاب ليس له قواعد يكفيه فقط أن تقع الضحية فى قبضة المُغتصب، حتى لو جاءت إليه برضاها، وهى لا تدرك ما يدبره لها وما يخطط فيه، فهى تعرفه ويعرفها ولم تتصور أن يفكر فيها دون ملابسها التى اعتادت عليها!
وهذه الجريمة تجرجرنا من شعر رأسنا إلى جريمة أخرى فيها قدر كبير من الوقاحة، قد يبدو أن العلاقة بين الجريمتين ضعيفة أو منعدمة أصلا، لكن لن نغتر بالمظاهر، فقد تكون الخيوط باطنية غير مرئية..
هى جريمة تكررت بعد ثورة ٢٥ يناير، وسقوط هيبة الدولة «الُمغتصبة»، فهل يمكن لمُغتصبة أن تكون ذات هيبة حتى لو كانت ضحية بريئة؟!
والجريمة هى محاولة اقتحام مركز شرطة أطفيح جنوب الجيزة، وأطفيح هذه هى التى وقعت فيها أيضا أول جريمة هدم كنيسة بعد ثورة يناير على يد متشددين ومتطرفين..
ولماذا عملية الاقتحام؟ فى العادة لتحرير مجرمين متهمين قبل العرض على النيابة أو وصولهم إلى قاعات المحاكم، لكن هذه المرة كان الاقتحام سببه غريبا للغاية، وهو بطء الإفراج عن تاجر مخدرات أدين فى قضية وكان محبوسا على ذمتها، برقم ٥٦٩٥ لسنة ٢٠١١، جنايات أطفيح، ثم صدر له «عفو»، وأنتم تعرفون أن عددا من تجار المخدرات والقتلة المحترفين قد صدرت لهم قرارات بالعفو تباعا فى الأشهر التسعة الأخيرة..
وشىء طبيعى أن تنفيذ قرار العفو يأخذ وقتا يُستنفد فى إجراءات قانونية وإدارية، قد يطول هذا الوقت بحكم البيروقراطية المصرية والروتين الشائع، ويبدو أن عائلة المعفو عنه وجماعته وأصحابه لم يقبلوا بألا يخرج على الفور عقب قرار العفو، فالقرار صادر من أعلى سلطة فى البلاد، فكيف لا يُنفذ دون مراجعة أو تمحيص (البلد بلادنا والحكومة حكومتنا وهى مننا وعلينا)، وتجمع هؤلاء الغاضبون من بطء مرور بعض الوقت، وأعلنوا الحرب بالحجارة على المركز الموجود به المعفو عنه، المهم أن المركز حاول صد الهجمات التتارية عليه، وأطلق بعض ضباطه رصاصات فى الفضاء، خصوصا بعد تدمير سيارة شرطة كانت رابضة أمامه، وسيارة أخرى، المهم أن المهاجمين طالوا أمين شرطة وحاولوا خطف مسدسه منه، عقابا له على إشهاره إياه فى وجوههم، فخرجت طلقة أصابت فتاة كانت فى سيارة مركونة بجوار المركز.
فى النهاية فشلت عملية الهجوم، وألقت الشرطة القبض على بعض المهاجمين، وأحيل أمين الشرطة إلى النيابة، فوجهت له تهمة الشروع فى قتل، وهو يدافع عن المركز حتى لا يغتصبه الخارجون على القانون!
قطعا ولا واحد من المهاجمين متهم بالشروع فى قتل، فقط إتلاف عمدى للمال العام ومقاومة السلطات وهما أقل تجريما من الشروع فى القتل!
هل اكتشفتم الارتباط بين جريمة مصطفى فى الشرقية وجريمة تاجر المخدرات فى أطفيح؟!
لمن لم يكتشف.. يمكن أن نضيف إلى معلوماته أن مديرية أمن قنا «ولعت»، والحريق لم يأكل إلا إدارتين فقط: الرقابة الجنائية والتوثيق، مثل حريق محكمة جنوب القاهرة وملفات مجمع المحاكم ومباحث أمن الدولة!!
فعلا جرائم فى منتهى الخسة!!