اتجه الدكتور مرسى إلى البرازيل سعياً لزيادة حجم التبادل التجارى بين البلدين وللاستفادة من «التجربة البرازيلية». لكن هل كان يعلم الرئيس، عندما أعلن مؤخراً أن إدارته ستوقف جميع عمليات الخصخصة فى مصر، أن الحكومة البرازيلية (اليسارية) أعلنت العام الماضى عدة عمليات خصخصة واسعة النطاق، شملت مرافق مهمة كالمطارات الكبرى مثل ساو باولو وريو دى جانيرو، وطرق وموانئ، بالإضافة إلى أكبر شركة إعادة تأمين فى أمريكا اللاتينية (وهى شركة «آى. آر. بى برازيل» التى تشترى عقود التأمين من شركات تأمينية أصغر)؟
صحيح أن الكثير من عمليات الخصخصة تلك لم تتضمن عقود بيع صريحة، وإنما صفقات حق انتفاع محددة المدة- عادة ما تكون محددة بثلاثة عقود- يقوم خلالها القطاع الخاص بتطوير البنية التحتية للمرافق المعنية، ثم الانتفاع منها قبل أن تعود من حيث المبدأ إلى الدولة بعد انتهاء مدة العقد.. رغم ذلك يتضمن إبرام صفقات الخصخصة هذه أدلة قوية تشير إلى أن اليسار البرازيلى، الذى يأخذه البعض عندنا كنموذج لقيادة التقدم الاقتصادى فى دول الجنوب، يقرّ بأن مشاركة القطاع الخاص مطلوبة حتى فى مجالات البنية التحتية الأساسية. هذه خطوة جريئة لم تتخذها بعد معظم دول «الشمال»- حتى فى الولايات المتحدة معظم الطرق الكبرى مملوكة ومدارة من قبل حكومات الولايات المختلفة- ربما لأنها مطلوبة أكثر فى دول يعجز عن القيام بها بكفاءة قطاعات حكومية متضخمة، ومثقلة بالفساد.
الحكومة البرازيلية تتفادى استخدام كلمة «خصخصة» لوصف تلك الصفقات، تجنباً للهجوم من قبل اليسار الأكثر تشدداً.. وإذا كان الرئيس مرسى يعلم ذلك، وينوى فعلاً الاستفادة من التجربة البرازيلية لكنه لا يريد تسمية إعادة هيكلة القطاع العام بالخصخصة، فلا بأس.. المهم هو الإقرار بأن بلداً مثل مصر لا يمكن أن يتحمل خسائر قطاع حكومى متضخم وعديم الكفاءة، وأن المهم- بصرف النظر عن المسميات- إصلاح القطاع وإعادة توزيع بعض مهامه على من هو أكفأ.
ويمكن الاستفادة من التجارب البرازيلية الأخيرة فى «الخصخصة» من حيث اتسامها بالشفافية- حسب ما نقلته الصحافة الغربية- فلم يتم التعاقد قصرياً مع «أهل الثقة» المقربين أو المسيطر عليهم من قبل الحكم، أو مع مجموعات مالية احتكارية تتبع الإرادة السياسية للدولة، كما يحدث عندما تسود عقليات «الاشتراكية القومية» أو رأسمالية الدولة.. مع ذلك لم تخل صفقات الخصخصة البرازيلية من ضمانات تتيح التواجد الرقابى الفعال من قبل الجهات الرسمية المعنية.
لذلك، إذا تمت الاستفادة فعلاً من التجربة البرازيلية فى أى محاولة لإعادة هيكلة القطاع العام، أو فى مشروع تطوير ممر قناة السويس المزمع، فإن ذلك سيشكل خطوة مهمة فى الاتجاه الصحيح- بعيداً عن نهج اقتصادى اتبعناه خلال أكثر من نصف قرن، والذى أدى بنا لسيطرة الدولة على مفاتيح الاقتصاد، ومن ثم الفرد- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- ومن ثم إلى تقويض حيوية المجتمع وقدرته على الحركة والابتكار.
التحربة البرازيلية قد تكون مفيدة أيضاً فى مجال البحث العلمى، الأساسى والتطبيقى، فقد أدت سياسات الأنظمة المتوالية إلى عزل مصر عن العالم، ليس فقط اقتصادياً، إنما أيضاً فكرياً وأكاديمياً، مما كان له تأثيره بالطبع فى مجال البحث العلمى، خاصة العلوم الأساسية، وهى المشيدة للحضارة المعاصرة. أما فى البرازيل فقد أدى اهتمام الحكومات المحلية- خاصة حكومة ولاية ساو باولو التى تستضيف أرقى الجامعات- إلى زيادة ملحوظة فى كم الأبحاث المنتجة (من 1.7 إلى 2.7% من الناتج العالمى خلال فترة ما بين عامى 2004 و2008)، وأيضاً جودة تلك الأبحاث، وتم ذلك أساساً بفك العزلة عن العالم الخارجى عن طريق دعم التبادل والتعاون مع المجتمع العلمى العالمى.. بل فى عالم علمى معولم نجحت البرازيل فى جذب بعض الخبرات العلمية الأجنبية عالية المستوى- وليس فقط العلماء البرازيليين فى الخارج- مستغلة فى ذلك خفض الإنفاق على البحث العلمى فى بعض دول الشمال.
فى هذا الإطار يتضح أن الاستفادة الفعالة من «التجربة البرازيلية» تتطلب إعادة نظر جذرية فى الكثير من المسلمات التى طغت على التصور المصرى للعالم خلال أكثر من نصف قرن، «مسلمات» نتج عنها انغلاق اقتصادى وعزلة فكرية وأكاديمية مخيفة.. هل نحن مستعدون فعلاً لهذا التحدى؟ وهل الحكم الحالى هو المؤهل لخوضه؟ سنرى.