كانت علاقتنا سرية. لم أتكلم عنه مع أى إنسان، حتى أقرب الناس إلى قلبى لا يعرفونه. هو الذى فرض القاعدة: «لو عاوز نبقى أصدقاء طلبى الوحيد إن علاقتنا تبقى سرية». والسرية تعنى من وجهة نظره، أن لا يكون بيننا أناس مشتركون، أن لا يكون بيننا أى بنى آدمين «أنا عشت وسط الناس وبينهم 35 سنة عملت اللى بيعملوه واللى بتفرضه الظروف عليهم إنهم يعملوه، وبعدين قررت أحدد اختياراتى فى الدنيا». هذه الجملة كانت سر تعلقى به، بل ولعى بشخصيته. وطوال معرفتى به، التى امتدت إلى أكثر من عشر سنوات، لم يكن يتحدث بأسى أو ألم عن الظروف التى دفعته إلى اتخاذ قراره الغريب.
تخيلت فى بداية تعارفنا أننى أمام شخص مجنون أو فى الطريق إليه. إنسان قرر -وهو ممتلئ بحب الناس والحياة- أن ينسحب، يبتعد، والأهم أن يستغنى. قرر أن يتلاشى تماما، يذهب بعيدا فى ذاته بحثا عن معانٍ مختلفة من وجهة نظره.
فعلها وانزوى يشاهد مصر من بلكونة شقته فى المنيل، ويراقب تطور انحدار المجتمع. «أنا منبهر بتورط المصريين فى حب الحياة» وكنت أنا أيضا منبهرا بقدرته الخارقة على البقاء لمدة قد تصل إلى الشهرين دون أن يرى أى إنسان. حتى عندما توفيت أمه فى عام 2006 لم أعرف بالخبر إلا بعد شهر. غضبت منه، فابتسم بمرارة: «كلمت بتوع سيارة الموتى ونقلتها لبلدنا فى كفر الشيخ ودفنتها ورجعت فى نفس اليوم، كانت وصيتها أن تدفن بجوار والدى فى البلد «نفذ الوصية وعاد» أول ما دخلت البيت اكتشفت أنها ماتت، وأنى وحيد، تقريبا كل أجهزة جسمى توقفت عن العمل ما عدا الغدة الدمعية، فضلت أعيط أسبوع كامل».
من شدة حبى له ورغبة فى استمرار صداقتنا، كنت حريصا على عدم إزعاجه بأسئلة عن نفسه أو حياته. نجلس بالساعات ولا نتكلم إلا فى أمور عامة جدا، أو لا نتكلم أصلا. تعلمت منه فضيلة وقيمة الصمت، خصوصا إذا لم يكن لدى الإنسان شىء مفيد يقوله. لكن تشجعت فى مرة وسألته عن عمله: «مترجم، بترجم أبحاث علمية من الفرنسية والألمانية. «يشير إلى جهاز الكمبيوتر: أنا حياتى كلها مرتبطة بهذا الجهاز، وشايف أن الرجل اللى اخترع الإنترنت لازم يتعمله تمثال فى كل ميادين العالم، هذا الرجل أنقذ أمثالى من جنون الاختلاط بالناس. فتح لى شباكا فى الزنزانة اللى قررت أعيش فيها».
رحلة اكتشاف شخصيته الغريبة بدأت من خلال معرفتى بموقفه من الارتباط أو الزواج: أنا شخص بحب نفسى، والجواز محتاج إنى أقسم الحب ده على اتنين، أنا بطل العالم فى الفشل العاطفى، طول عمرى بلعب فى وزن التقيل «أضحك من سخريته» وبعدين عاوزنى أتجوز أو أحب إزاى فى بلد عبارة عن مستنقع بحجم المحيط «كان يحب استخدام هذا اللفظ» «مستنقع» ويتفنن فى حشره بين جملة وأخرى، فى الحديث عن السياسة، السينما، المزيكا، العلاقات الاجتماعية، علاقة السلطة بالجماهير. الأنظمة -من وجهة نظره- نجحت بهدوء فى تحويل المصريين إلى حيوانات، واستأصلت منهم أى رغبة لديهم فى العودة إلى إنسانيتهم.
يوم 28 يناير 2011 انقلبت حياته تماما. وكانت المفاجأة المذهلة، أننى رأيته عند كوبرى الجلاء عصر يوم جمعة الغضب، لم أصدق أنه تغير وتبدل حاله، وكسر جدار عزلته الاختيارية. الأكثر من كل هذا أنه دخل فى علاقة حب عاصفة وتزوج، لكنه قرر عدم الإنجاب.
أكمل منذ ستة أشهر عامه السابع والأربعين، لكن لم يحتفل، لأنه عاد إلى زنزانته الاختيارية.
صباح الأربعاء الماضى، استيقظت زوجته فلم تجده، وجدت مجموعة من الأوراق مسجلة فى الشهر العقارى. تنازل لها عن كل ممتلكاته، الشقة، العربية التى اشتراها بعد الثورة، حسابه البنكى، قطعة الأرض التى ورثها عن أمه فى البلد. ورسالة مقتضبة: «منذ أكثر من عام وأنا أقاوم رغبة جامحة فى الرحيل، ثم انهارت هذه المقاومة، لن أعود إلى مصر».
اتصلت بى زوجته: «أكرم» هاجر وترك كل شىء.