اكتنف الغموض أول خبر عن زيارة الرئيس مرسى إلى البرازيل عندما قيل إن الغرض هو الاستفادة من تجربتها التنموية المشهود لها عالمياً بالنجاح وبتحقيق مؤشرات متقدمة فى زمن محدود! فهذا الكلام ينفى أنه كان لدى الدكتور مرسى وحزبه وجماعته مشروع للنهضة كما زعموا فى دعايتهم الانتخابية، كما أن تسليمهم بنجاح التجربة البرازيلية يتناقض مع شعارهم الأثير إلى قلبهم «الإسلام هو الحل»، وإباحتهم لأنفسهم النيل من كل من يختلف مع هذا الشعار، فلا إسلام ولا مسلمين فى البرازيل إلا فى أضيق الحدود، فالأغلبية الساحقة مسيحيون (73.6 بالمئة كاثوليك، و15.4 بروتستانت)، ويدخل المسلمون هناك ضمن نحو 2 بالمئة فقط من السكان يدينون بديانات أخرى بعضها ديانات بدائية من إفريقيا جلبتها تجارة العبيد. كما أن نظام الحكم فى البرازيل لا يضطهد غير المتدينين بشكل منهجى بل يعلن رسمياً أن نسبتهم فى المجتمع نحو 7.5 بالمئة.
كيف، إذن، لمن لا يَملّ من الادعاء بأن لديه برنامجاُ سماوياً، يلبى به كل متطلبات الحياة ويحل به كل مشاكل الناس الدنيوية، أن يلجاً إلى البرازيل للاستفادة، كما قيل، من تجربتها فى مجال تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر ومحو الأمية، بل وفى التعلم من برامجها الخاصة بالطفل صحياً واجتماعياً؟ ألا يرى أن هناك قصوراً هائلاً فى برنامجه المزعوم؟ وألا يؤكد هذا صحة مواقف معارضيه الذين حذروا من الزج بالشعارات الدينية فى الصراع السياسي؟
ثم إن هناك تناقضاً آخر فى منتهى الوضوح كان من دواعى ارتباك الرأى العام خاصة من كانوا يؤيدون الدكتور مرسى، وهو أن إمرأة برازيلية هى النظير له رأساً برأس، وهى رئيسة الدولة السيدة ديلما روسيف، وهى التى تقابله وتتناقش معه وجهاً لوجه، فى حين أن جماعة الإخوان المسلمين ومن معها من التيارات الإسلامية لا يؤمنون بمساواة المرأة بالرجل، وأكثرهم اعتدالاً واستنارة يسمح لها فقط بالعمل فى مجالات محددة لا ترقى أبداً للمناصب العليا فى الإدارة والحكم، وأما أغلبيتهم فعقيدتهم أن تبقى فى المنزل لزوجها وأطفالها، فى حين لا يجرؤ حزب أو جماعة فى البرازيل على الدعوة إلى تعطيل نصف طاقة المجتمع، ولا إلى ختان الفتيات اللائى يتمتعن بحرية يبدو جانب منها فى مدرجات كرة القدم وهن يشجعن فريقهن ويتهللن بطريقتهن غناءً ورقصاً مع كل هدف أو لعبة حلوة، وهى تجليات لحرية الجسد وللحق فى إعلان البهجة، ولكنها باتت أشياء مطلوب مصادرتها مع بقية الحريات الأخرى فى عهد الإخوان وحلفائهم.
فإذا كان الرئيس مرسى وجماعته معجبين حقاً بتجربة البرازيل التنموية، وإن كان لديهم بالفعل نية مخلصة فى استلهام خبرتها، فلماذا لا يعترف هو وجماعته بخطأ شعارهم سياسياً، وبقصور نظرتهم للمرأة، وبتبديد طاقة قطاعات فى المجتمع بالتكفير والإقصاء والاستنزاف فى الدفاع عن أنفسهم، وبالمخاطر الاجتماعية لفرضهم حالة الكآبة والتجهم على الشعب؟ وكل هذا لم يكن يتطلب من الدكتور مرسى أن يتجشم عناء السفر إلى هناك، لان تفاصيل إنجاز البرازيل وكيف أنجزته، منذ الطفرة التى حققها الرئيس السابق لولا دا سيلفا، متاح على الإنترنت وفى أوراق المؤتمرات التى ناقشت التجربة، كما أن عشق البرازيليين للحياة وسعيهم للاستمتاع بها شائع فى آدابهم وفنونهم وألعابهم.
لماذا إذن ذهب مرسى إلى البرازيل؟
ربما تتبين الإجابة الشافية بعد تأمل صحبته من رجال الأعمال ممن ينتمون مباشرة إلى جماعة الإخوان، أو من يعملون لصالحها من الباطن، أو من أذعن للظرف التاريخى ونقل عطاءه من آل مبارك إلى الجماعة، وكل هؤلاء أمامهم فرصة تاريخية لإبرام صفقات استثنائية مضمونة فى ظل لقاء الرئيسين وتحت شعار جميل يتغنى بخدمة مصر وشعب مصر، ومن المؤكد أن هذا سيعود بأرباح هائلة على هؤلاء المواطنين الشرفاء الذين يضحون بالغالى من صحتهم ووقتهم بما يدعم الموقف المالى للجماعة ويضيف مدداً إلى قوتها التى يصعب حصر بنودها خاصة مما يجرى تداوله فى الخارج.
حتى إذا لم يعترف الدكتور مرسى وجماعته بفشل شعارهم المعلن وبرنامجهم الوهمى، فإن أفعالهم تؤكد أنهم لم يعودوا يثقون فى صحة كل هذا، إذا افترضنا أنهم آمنوا بدعايتهم يوماً ما، ذلك أن أسباب التنمية والتقدم لم تعد مستعصية على المنال والتحصيل، بل هى معروفة وكتبها متاحة وخبراؤها فى الداخل والخارج موجودون، ولم تنجح تجارب أندونيسيا وماليزيا إلا باعتماد الأسباب الحقيقية، وليس بالشعوذة التى تخلط الشعارات الدينية فى تفاصيل السياسة اليومية، بل إن معارضة النجاح فى مثل هذه التجارب كان من أشباه الإخوان المسلمين، الذين تصل معارضتهم أحياناً إلى حد الإرهاب، وبعضها أيضاً ضد السياح هناك!