تجاهل وازدراء ورفض وعدم اكتراث كامل «وتنفيض» باللغة الشعبية الدارجة لدعوات كثير من المشايخ ودعاة الفضائيات المتأسلمة، الذين بحت أصواتهم على المنابر منذ صلاة يوم الجمعة الماضية وفى كثير من هذه الفضائيات لتحريم الاحتفال بيوم شم النسيم، لأنهم لا يعترفون به كعيد، فالأعياد من وجهة نظرهم الضيقة تقتصر على العيدين الدينيين للمسلمين الفطر والأضحى فقط، لكن عيد شم النسيم تحديدا يصيبهم بأرتكاريا دونا عن أعياد أخرى تخصنا كمصريين، ومنها مثلا عيد النصر فى 6 أكتوبر، وعيد الثورة فى 25 يناير و23 يوليو.. وغيرها وهنا يبرز السؤال: لماذا يضمرون كل هذه الكراهية البغيضة إلى حد الغل الطافح لهذا العيد؟ ولماذا يستمرون عاما بعد عام فى إطلاق فتاواهم بتحريم هذا الاحتفال؟ رغم أن الغالبية العظمى من المصريين المسلمين لا يعيرون هذه الفتاوى أى اهتمام ويضربون عرض الحائط بفتاوى تحريم هذا العيد الجميل. والذى يبدو محيرا فى هذا السؤال أن الناس يقبلون منهم فتاوى أخرى غبية ومتطرفة وهزلية أحيانا، لكن عندما يصل الأمر إلى شم النسيم بالذات يكون للمصريين رأى آخر، حيث لا سلطة ولا سلطان لأحد عليهم فيه، والسبب فى هذا الموقف جوهرى بكل ما فى هذه الكلمة من أبعاد، فهذا العيد متغلغل فى وجدانهم وموروثهم الوطنى والإنسانى، لأنه ضارب بجذوره فى أعماق الزمان فى تواصل عبقرى، ولم ينقطع دوامه أبدا ودون مبالغة، فإنه من أقدم أعياد البشرية إن لم يكن أقدمها على الإطلاق، إذ بدأ الاحتفال به منذ قرابة خمسة آلاف عام، وهناك رأى يرى أنه ينحدر إلى ما قبل عصر الأسرات، ولم يطرأ عليه أى تغيير سوى أنه تمت زحزحته عدة أيام من أجل أن لا يتداخل مع صيام المصريين المسيحيين الذى يمنعهم من أكل السمك والبيض.
لهذا لم ولن تستطيع أى قوة أو إرادة أن تمنع المصريين من الاحتفال بهذا العيد الوطنى، لأن معنى هذا الاعتداء على هويتهم وتاريخهم وموروثهم، وربما كان هذا هو السبب فى أن المتزمتين من الإسلاميين ينفرون من هذا العيد المؤسس على هوية وطنية تسبق الإسلام تاريخيا، لأنهم لا يريدون القبول بواقع أن الدين جزء من مكونات الهوية، فهم يريدون إغلاق الهوية على البعد الدينى فقط، لكن المصريين بفطرتهم كأمة ذات حضارة ضاربة فى عمق التاريخ يتجاوزون هذا الهراء والانغلاق المتعصب الذى لا ينفتح على حقائق الوجود، ولهذا يخرجون عن بكرة أبيهم كى يحتفلوا فى احتشاد لا يتكرر فى أى عيد آخر دنيوى أو دينى، وهم فى هذا أصحاب موقف ثابت يستمدونه من خبرة التاريخ ورحابة الحياة ووسطية علاقتهم مع الدين.
وحتى لا يبدو الكلام عن هذا العيد العظيم مطلقا، تجدر الإشارة إلى رواية المؤرخ الإغريقى «هيرودوت» الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل الميلاد، ووصف فى هذا العيد أنهم كانوا يأكلون السمك المملح والبصل الذى ارتبط عندهم بإرادة الحياة والتغلب على المرض، وقد لفت هذا اليوم انتباه المستشرق الإنجليزى «إدوارد وليم لين» الذى زار مصر عام 1834، فوصف احتفال المصريين به قائلا: «يُبَكِّرون بالذهاب إلى الريف المجاور، راكبين أو راجلين، ويتنزهون فى النيل، ويتجهون إلى الشمال على العموم؛ ليتَنَسَّموا النسيم، أو كما يقولون ليشموا النسيم. وهم يعتقدون أن النسيم -فى ذلك اليوم- ذو تأثير مفيد، ويتناول أكثرهم الغداء فى الريف أو فى النيل». وما بين هذين المؤرخين جاء ذكر هذا العيد لدى كثير من المؤرخين والرحالة، والمثير للانتباه أن الاحتفال السنوى بشم النسيم لم يتوقف طوال ما يزيد على أربعة عشر قرنا هجريا منذ دخول الإسلام مصر، والآن يحاربه دعاة آخر زمن لأنهم لا يقرؤون التاريخ ولا يتعلمون منه.
فى شم النسيم يتفق المصريون على قلب رجل واحد وإن اختلفت عقائدهم الدينية والسياسية وطبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية، على أن يكون هذا اليوم مدعاة للفرحة والبهجة والفرفشة، وخير دليل على هذا التصميم على الاحتفال به رغم الوضع المأزوم بعد انتفاضة 25 يناير، فأول من أمس كانت شوارع القاهرة والمدن الرئيسية خاوية من المارة إلا فيما ندر، وكانت المحال بجميع أنشطتها مغلقة، بينما كانت الحدائق والمنتزهات تغص بالزائرين بأزياء كرنفالية، حيث ينخرط الكبار والصغار فى ألعاب جماعية والمراكب المزينة تعمل بكامل طاقتها فى نهر النيل، وتبدأ شواطئ البحر موسمها فى هذا اليوم الذى يكتظ بالرواد، واستجد أخيرا بعد أن عرفت مصر القرى السياحية والمنتجعات انتقال الموسرين إليها فرادى وجماعات للاحتفال بهذه المناسبة هناك.
ولا يختلف الجميع فى طقوس الطعام التى تبدأ قبل شم النسيم بأيام، عندما يتم حجز الفسيخ والرنجة وتلوين البيض، وفى النهاية يتحلق الجميع هنا وهناك جلوسا فى الحدائق والمنتزهات فوق العشب الأخضر لتناول وجبة تتكرر سنويا منذ آلاف السنين، تتكون من السمك المملح والبصل الأخضر والخس والملانة التى لا يعرف كثيرون من أبناء المدن أنها الحمص الأخضر.
كل شم نسيم أنتم بخير.