كانت الضربات تنهال علىَّ من كل جانب! وأنا أفر هنا وهناك. ثم بدأ الطعن! بسيخ حديدى حاد ينغرس فى كل مكان. كان الألم قد بلغ حداً يفوق الاحتمال. وبدأت أرفع صوتى بالصراخ. اشتكى إلى خالقى عز وجل. أنت يا إلهى عادل! لا أشك فى هذا. فهل يرضيك ما يحدث؟. وفجأة لم أعد أشعر بالألم مطلقا. وشعرت بيقظة لم أستشعرها طيلة حياتى. وتذكرت تلك اللحظة قبل الخلق، قبل الحياة!!
■ ■ ■
قبل أن نأتى إلى العالم، قبل أن يُخلق الزمان والمكان. كنا أرواحا محضة، لم تسكن فى جسد بعد.
كنا حوالى سبعة أرواح، مثل ممثلين ينتظرون فى كواليس المسرح أن يعرفوا الشخصيات التى سيتقمصونها. وأخبرنا الملاك المُوكّل بنا أن أحدنا سيكون امرأة، والثانى رجلا، والثالث عصفورة، والرابع شجرة توت، والخامس قلم رصاص، والسادس خنزيرا، والسابع غيمة بيضاء. أخبرنا أيضا أننا لن نختار، ولما تعالت همهمتنا قال إن خالقنا عادل، وإن موعدنا القيامة، ومن تعرض لظلم فى هذه الدنيا سيقتص له فى الآخرة.
لن أطيل عليكم. أصبحتُ خنزيرا. كان من الممكن أن أصبح شيئا آخر، لكن هكذا قضت المشيئة الإلهية ولا راد لقضائه. بمجرد أن نزلتُ إلى هذا العالم نسيت كل شىء وبدأت حياتى فى حوش واسع ملىء بالقمامة.
حياتى لم تكن سعيدة ولكنها مقبولة. كانوا يضربوننى كثيرا، ولم أكن أدافع عن نفسى ولكنى أبتعد. وكانوا يذبحوننا ويطعمون لحمنا للأجانب. كنتُ أدنى من سائر الحيوانات، ولكنى لم أكن أتعرض لأذى فوق الاحتمال.
وفجأة جاء الويل. انقلب عالمنا رأسنا على عقب. لم نعرف بالطبع أن هناك وباء استدعى التخلص منا. الحقيقة أن حياة من هذا النوع لم تكن تستحق الأسف. لكن المشكلة هى وسيلة الخلاص منا. كان من الممكن أن يقتلونا بالغاز مثلا، أو يذبحونا برفق، ولكن أنّى تعرف قلوب هؤلاء القساة الرحمة!.
بدون أى إنذار مُسبق، فى صباح بدا باسما، وجدنا العمال يدخلون علينا، كلهم قساة بلا أى رحمة، ينهالون علينا ضربا وركلا. صرخنا، هربنا إلى جانب، لكن الضرب اشتد. بعضنا تم إلقاء الجير الحى عليه. شعرنا بحريق من الألم ينتشر فى شبكة الأعصاب. كان ألما جنونيا صاعقا فوق قدرتنا على الصراخ. بعدها بدأ الطعن. كنا نختبئ فى بعضنا البعض. نحاول أن نفر من الموت. والرماح الحديدية الحادة تطاردنا، تنشب فى لحومنا كيفما اتفق، تخترق أكبادنا ثم تُنتزع فى قسوة، لتعاود الطعن.
وفجأة أدركتنى غشاوة فأدركت أنه الموت. الموت راحة والبعد عن القساة نعمة. وقتها عاودتنى الذكرى، وتذكرتُ كل شىء. هناك قبل خلق هذا العالم، حينما كنا أرواحا لم تلبس أجسادا بعد. وددتُ أن أقول للقساة لحظتها: «كان يمكن أن تكون مكانى! لا أنا اخترتُ ولا أنت اخترتَ».
وتذكرتُ وعد الملاك لنا إن الله عادل وإن موعدنا القيامة. وقتها رفعت شكواى إلى خالقى: «اللهم انتقم من هؤلاء القوم. من فعل منهم ومن سكت! هل كان يمكن أن يحدث مثل هذا فى بلد متحضر! كلهم يستحقون العقاب».