منذ نجاح ثورة 25 يناير فى خلع نظام مبارك وولده، ابتلينا بنوع من الثوريين و«الثورجية» الجدد «أغلبيتهم قفزوا بتهور أو بانتهازية فى مركب محمد مرسى وأيدوه»، هؤلاء أقل ما يقال فى وصف حال أفضلهم، أنهم كانوا وما زالوا «ثوارا بالصدفة» وبلا وعى حقيقى على ما تفرج، غير أن أسوأهم وأشدهم ضررا ذلك الصنف الناضح بالتصنع والادعاء لدرجة تثير النفور والقرف.
عن هذا النوع من الثوار والثورجية كتب بريتولد بريخت «1898ـ 1956»، وهو ما زال فى مطلع شبابه، مسرحية رائعة سماها «طبول فى الليل» بطلها جندى ينحدر من الطبقة البرجوازية الصغيرة يدعى أندرياس كراجر، هذا الجندى يعيش مأساة درامية مشهورة وعادية جدا «تناولتها مئات الأعمال الإبداعية»، خلاصتها أنه عاد من ميدان القتال وبعد أسر طال قليلا فوجد أن زوجته المحبوبة «آنا» هجرته وضاعت منه، إذ بعدما يأست من عودته وظنته مات وافقت على الخطبة من جندى آخر كان أسيرا أيضا، لكنه سبق زوجها فى العودة إلى الديار.
إذن المشكلة كلها شخصية تماما، لكن أندرياس أراد «ربما لكى يخفف من ألم الجرح الذى أصاب كبرياءه» أن يصبغها بطابع اجتماعى ووطنى فدمجها عامدا متعمدا فى مجمل الظواهر والتبدلات التى طرأت على المجتمع، بينما كان هو ورفاقه يحاربون ويدفعون ضريبة الدم على الجبهة.. فتضحياتهم ذهبت فى النهاية إلى جيوب وكروش المضاربين المستغلين وأغنياء الحرب الذين استثمروا دماء الشباب المحارب من أجل الوطن لكى يحققوا ثروات وأموالا طائلة.
هكذا، يقرر الجندى العائد الدخول فى معركة جديدة مزدوجة الهدف، أى أن يستعيد امرأته المفقودة وفى الوقت ذاته ينخرط فى انتفاضة ثورية فجرتها آنذاك «مطلع عشرينيات القرن الماضى» جماعة كانت تدعى «جماعة سبارتاكوس» اليسارية بقيادة الثنائى المناضل روزا لوكسمبورج وكارل لبينخت «استشهدا فى بواكير الانتفاضة» بيد أن صاحبنا ما أن تلوح له فرصة الفوز بحبيته يتخلى فورا عن هدفه الثورى وينساه تماما.. كيف؟
يعرف أندرياس أن زوجته الضائعة سوف يقام حفل عرسها على خطيبها فريدريك مورك فى أحد البارات فيذهب إلى الحفل ويكشف أمام الحضور حقيقة أنه لم يمت وأنه ما زال زوج «آنا» وعليها أن تعود إليه فورا، لكن هذه الأخيرة لا تستطيع أن تصارحه بأنها رغم حبها القديم له «الذى عاد واستيقظ فى قلبها»، قد صارت الآن حاملا من رفيقه فى الجبهة، ومن ثم صعب عليها أن تقوض مشروع الزواج، ولهذا فهى تكتفى بتوسلات ملتاعة للحبيب العائد أن يرحل ويتركها لحال سبيلها.. هنا لا يجد أندرياس كراجر أمامه إلا أن يغادر المكان يائسا محطما يصب جام غضبه «اللفظى» على أوضاع البلد، وبينما هو يتسكع طوال ساعات الليل فى البارات يقرر أن خلاصه من آلامه ليس له من سبيل إلا الانخراط فى الثورة السبارتكية.
غير أن «آنا» كانت قد قلبت موقفها بعدما تجاوزت حيرتها وشعورها بالصدمة والمفاجأة، وقررت أن تعود إلى زوجها وحبيبها القديم وراحت تجول على الحانات والبارات باحثة عنه.. وأخيرا عند الفجر عثرت على أندرياس ودخلت معه فى نقاش حاد وطويل لم يخل من رطان ثورى حار جدا انتهى بتخليه عن الثورة والاكتفاء بجائزة الحبيبة العائدة.