آه، فلتهتزوا ولترجفوا يا طغاة العالم
وأنتم أرهفوا السمع أيها العبيد
تسلحوا بالشجاعة وهبوا
أحب هذا المقطع القصير لـ«بوشكين»، وإن كاد يكون تقليديا تماما، بل أحب تحديدا جملة «تسلحوا بالشجاعة وهبوا»، بعيدا عن سياقها في القصيدة، إذ تبدو لي تلك الجملة القصيرة جدا تلخيصا تاما لروح الثورة، التي، بعيدا عن أي حسابات عقلانية، تتسلح بالشجاعة، وتهب لمواجهة حروب لا تعلم إلى ماذا ستنتهي.
ولذلك أيضا أحب تنظير روزا لوكسمبرج عن أن «الثورة لا يمكنها أن تأتي إلا قبل الأوان»، العنصر المحدد لثورية أي تحرك هو قدرته على فتح آفاق جديدة لم يكن ممكنا التنبؤ بها، وخلق واقع جديد لا يمكن معه الحديث عن إمكانية رجوع القديم، كان رأيها أن الثورة لا يمكنها إلا أن تكون عبارة عن ثورات متتابعة، شيء شبيه بسباق التتابع، الثورة التحرك الثوري لن يأتي أبدا في شكله المثالي، بل سيأتي دوما ناقصا وغامضا ومثيرا للرعب والجدل، ومحاطا بهالة كبيرة من التباينات والاختلافات والأخطاء والعنف والقسوة غير المبررة، ومغامرا باحتمالية خسارة كاملة، الثورة النظيفة والمخططة ذات الأهداف الواضحة هي تحديدا «الانقلابات العسكرية»، أوامر عسكرية لجنود مختارين بمهام محددة، بينما الثورات الحقيقية هي مغامرة لترويض النمور، مغامرة مفتوحة دائما على خسارة جذرية.
أرى أنه من هنا يمكن تقييم المواقف من الثورة السورية، ومن تعقيداتها المتتالية، فخلف كل تلك المناقشات بخصوص إسرائيل والمقاومة والقتلى والمستقبل وبشار، يمكن تبين تيارين يتحدد موقفهما بالأساس، نتيجة فكرهما عن الثورة، وفكرهما عن الوطن، بحيث يصبح الموقف تجاهها عبارة عن خيارين رئيسيين :
خيار الاستسلام باسم انتظار اللحظة المناسبة
في حالة وجود نظام استبدادي يصعب الدفاع عنه كنظام بشار، تصبح مساندته عبارة عن تنظير استحالة الثورة، أكثر منها تنظيرًا لإمكانية إصلاح هذا النظام، التنظير لاستحالة الثورة يمكنه أن يأخذ أشكالا لا تنتهي: التركيبة الطائفية، التمويل الخارجي، الإسلاميين المتطرفين، التدخل الخارجي، الموقف من إسرائيل، أثر «الصراع الداخلي» على- قال إيه- موقف سوريا الممانع من إسرائيل، المؤامرة العالمية باستحالة حدوث الثورة المناسبة، لا يعود ممكنًا إلا التمسك بالنظام القديم ومساندته، ولهذا لا يمكن اعتبار خيار التمسك بانتظار اللحظة المناسبة إلا خيارا يقف ضد الثورة بشكل مطلق، الموقف المحايد الذي يرى كلا الطرفين مخطئين، هو موقف يقف في صالح «شرعية القديم» ،لأنه لو انتهى «الصراع» الآن كما يدعون، لظل القديم مكانه، ولتم وأد الجديد للأبد.
يمكن اعتبار هذا الخيار هو الشكل العلماني للتنظير السلفي لرفض الخروج على الحاكم الظالم، لتجنب وقوع فتنة أكبر، ومن ثم يتم إرجاء تحقيق العدل إلى الآخرة عند السلفيين، أو عند العلمانيين إلى لحظة تكون فيها «شروط» الثورة ناضجة تماما، وهي اللحظة التي لا تأتي أبدا.
بجوار رؤية الثورة هذه تكون رؤية هذا المعسكر لـ«الكرامة» هي كرامة الوطن التجريدية، ولهذا يكون حدث قصف إسرائيل دمشق أهم مائة مرة من مئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى المقتولين على يد نظام بشار، ولهذا يكون حرصهم على عودة «الاستقرار» من أجل «استكمال المعركة» مع إسرائيل غير مبالٍ بحياة الشعب السوري، وكرامته، التي يسكت عليها هؤلاء مقابل كرامة تجريدية لوطن لا يمكن لأبنائه العيش فيه بكرامة، هناك في رؤية هذا المعسكر احتقار حاد للشعوب يتخفى حول شعارات قومية لا تعبأ بالناس قدر اهتمامها بتجريدات عن الوطن والأمة، وكأن الوطن لا يمكن تحقيق كرامته إلا بامتهان مواطنيه، يمكن لهؤلاء بدلا من الدعوة للحفاظ على النظام باسم استكمال المعركة أن ينحازوا للثورة والنضال من أجل كرامة الوطن والمواطنين معا.
خيار ترويض النمور وشجاعة اقتحام الثورة
في المقابل، يكون الانحياز للثورة ليس بالضرورة إيمانا مطلقا بكل مكوناتها أو حتى يقينيا بمآلها اليوتيوبي، بل يكون انحيازا بالأساس لنشوة فتح آفاق جديدة، والرغبة في هدم الأسوار، حتى مع احتمال أن خلف تلك الأسوار ربما يكمن خطر ما، ولأن النظم القمعية تقيم شرعيتها بالأساس على كونها تحمي الأمة - الدين - الوطن من خطر داهم، فيكون حينها الانحياز ثوريا، حين يقبل مبدئيا، وبكامل وعيه، أن يواجه خطر الوحوش المنتظرة خلف الأسوار.
في الحالة السورية، ومن البداية، كان يمكن توقع بعض الوحوش، الخطر الطائفي، إثر النزعة العسكرية في الانحراف بمجموعات متزايدة عن خط الثورة وأخلاقها، إثر تدفق المال الموجه سياسيا على تقوية بعض الجبهات العسكرية، وإضعاف الآخر، المدى الطويل للمعركة المتوقعة، كما أنه من البداية كان واضحا أن هذا النظام لن يقع بسهولة، لتعقيدات سياسية دولية، وهو ما مثل لمعسكر الاستسلام سببا آخر للوقوف ضد الثورة، ومثل لمعسكر الثورة سببا آخر للاستماتة في الدفاع عنها، لكن الخيار الثوري يكون بقبول هذه المغامرة، برفض الظلم الآن وهنا، ومحاولة تغييره، مع العلم التام بأن الثورة دائما مخيفة وغير منضبطة، وتكون مصحوبة بأهوال لا تنتهي، وقصص حزينة ومآسٍ شخصية لا يمكن تجنبها، وحين تكون فئات ضخمة من البشر على استعداد لكل هذه التضحيات للدرجة التي تخرج فيها لمواجهة نظام تعلم جيدا أنه لن يتوانى عن فعل أي شيء، للمحافظة على نفسه، تكون هذه الأنظمة وصلت للمرحلة، التي لا يمكن إجراء أي اتفاق معها، إلا بخيانة آلام هؤلاء الناس.
لا يعني هذا أن يكون التحيز للثورة وقوفا مطلقا مع أي فعل ضد النظام، بل انخراط في تعقيداتها ومحاولة ترويض هذه الوحوش، واحد تلو الآخر، ورفض ما يتعارض مع أهدافها، ومحاولة تحجيمه، محاولات تظل مستمرة باستمرار الثورة نفسها، ولا تنتهي بانتهائها، لأنه كما قالت روزا لوكسمبرج إنه سباق تتابع، يسلم هذا النضال الراية لنضال آخر، في محاولة للوصول لعالم أفضل، أكثر حرية وعدالة وكرامة.
تصف أروى صالح لحظة التمرد وأثرها على المتمرد هكذا «إن شاء أم أبى لا يعود أبدا نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم، وستبقى تلاحقه ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة، لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية».
لا تبخلوا عليهم بأن يمسهم الحلم مرة