الخلاف بين شيخ الأزهر والإخوان قديم وربما مستعصٍ على الحل، يحمل في طياته خلاف سياسي، ثم شقاق شخصي، ثم عراك فقهي، ثم تعقيدٌ إنساني لا ينبغي أن يستبعده متأمل العلاقة بين الطرفين.
فقد جاء تكريم الدكتور أحمد الطيب في الإمارات قبل أقل من أسبوع، ليُعمّق ملامح هذا الخلاف وليوغر الصدر الإخواني القلق تجاه الرجل صاحب المكانة الدينية الأهم في البلاد. فقد كرّمت الإمارات «الطيب» بمنحه جائزة الشيخ زايد لشخصية العام الثقافية، وهو تكريم تكتنفه دوافع السياسة بأكثر ما تتحكم فيه معايير الثقافة.
جاء التكريم بعد أقل من 3 أشهر من إطراء وزير خارجية الإمارات على موقف الأزهر الخشن من الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي حلّ ضيفًا على القاهرة في مطلع فبراير الماضي، حين واجهه «الطيب» برفض الأزهر تدخل إيران في شؤون دول الخليج، ثم رفضه للتضييق على معتنقي المذهب السُّني في إيران، ثم تأكيده على رفض إقامة أي حسينيات في مصر.
غرّد وزير خارجية الإمارات، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، على حسابه على تويتر حينها: «تحية من الخليج لشيخ الأزهر الحر». وهو إطراء مفهوم وثناء مبرر.. إذ يذهب كلام «الطيب» في صف الإمارات العربية في نزاعاتها السياسية المعقدة مع إيران، ومن ناحية أخرى، يتصدى لعملية تسويغ وتمرير ضم مصر للمعسكر الإيراني وملحقات هذا التمرير، الأمر الذي قد يخل بموازين المنطقة على نحو عبثي.
ومن ثم، فإن الانتقاد السياسي الذي وجهه «الطيب» للأداء الإيراني في المنطقة، ثم خشونته في التعامل مع قضية التشيع، ثم إصراره على أن الأزهر ممثل العالم السُّني، قد وضع أمام إيران ومساعيها في مصر حائلاً مذهبيًا وفكريًا، ثم عقبة سياسية لا تُنكر، وهو ما يتصادم بالضرورة مع حرارة مرسي والإخوان في التعامل مع إيران.
لا يخفى موقف الإمارات العربية من الثورة المصرية خصوصًا ومن الربيع العربي عمومًا، ولا يخفى موقفها المعادي صراحة للإخوان وأنظمتهم الحاكمة، وهو ما عمّقته أزمة خلية الإخوان «المصرية»، المقبوض عليها في الإمارات منذ أشهر والتي وقفت فيها مفاوضات مصر الرسمية مع الإمارات في مربع متجهم، لم تنجح في تحريكه من محله زيارة عصام الحداد، مستشار مرسي للشؤون الخارجية، ولم تشفع له زيارة رأفت شحاتة، مدير المخابرات المصرية.
ومن ثم، فإن الإفراج الإماراتي عن 103 سجناء مصريين، إكرامًا لشيخ الأزهر أثناء تكريمه، ينقل الرسالة بوضوح لمرسي والإخوان، بأن الإمارات لن تولي انتباهها إلا للنسخة المصرية التي تفضلها من مصر (مبارك أو مؤسسته العسكرية سياسيًا، ثم التيار «الوسطي» الأزهري المناهض للحراك الإيراني دينيًا وفكريًا).
وكان أن أعقب «الطيب» زيارته للإمارات بتصريحه بأن «دولة الإمارات تقدمت بهذا الشكل الكبير، لأن قادتها يملكون رؤية وهدفًا، ولأنها تعرف ما تريد»، وهو تصريح يبدو شيخ الأزهر فيه كما لو كان يلمز في لب وجوهر أزمة الدكتور محمد مرسي.. «الرؤية والهدف ومعرفة ما يريد»، بأكثر منه يتوجه بالمديح لحكام الإمارات.
***
في حفل جامعة القاهرة بعد تولي الدكتور محمد مرسي الحكم، غادر شيخ الأزهر القاعة دون حضور الاحتفال، احتجاجًا على عدم تخصيص مكان له في الصف الأول، في مجافاة بروتوكولية ، وربما شخصية صريحة أيضًا. وهي مغادرة، تحمل في طياتها مذاق الماضي القريب حين كان الطيب رئيسًا لجامعة الأزهر قبل نحو 7 سنوات وتم تسليم طلاب الإخوان من الأزهر لأمن الدولة بعد قيامهم بعرض عسكري، استمات الإخوان- أمام الرأي العام - لتوصيل أنه مجرد استعراض أقرب للطابور الرياضي.
(كان الطلاب في هذا العرض ملثمين ويؤدون بعض الحركات القتالية الاشتباكية في شبه يصل لدرجة المطابقة بتدريبات حركة حماس).
ورأى الإخوان أن «الطيب» باع طلابه لأجل منصبه ولأجل انتمائه المتصاعد فيما بعد داخل الحزب الوطني الحاكم آنذاك.
وبدا في استغضاب شيخ الأزهر بعدم تخصيص مقعد له في المقدمة ملمس انتقام وتشفٍ أكثر مما بدا «لخبطة» بروتوكول، لاسيما أن الكتاتني وهو دون صفة حينئذ كان في الصفوف الأولى لحفل جامعة القاهرة.
ينتمي «الطيب» للمنهج الأزهري وينحدر من عائلة صوفية لها وزنها بالأقصر، حيث يبجل المتصوفة في الصعيد جدّه الذي كان وليًا من أولياء الله الصالحين وله مقام هناك يزوره الناس.
وفي أزهرية «الطيب» نفورٌ من المسلك الإخواني المتلون عقيديًا والمتوائم مع كل فترة وكل موقف بتخريجة فقهية غير أختها، وفي صعيديته استنكافٌ خفي أن يتحكم فيه من «ليس أهلًا للتحكم»!
حافظ الأزهر على نسخة بعينها من العقيدة الإسلامية، أيًا كان موقعها وأيًا كان الخلاف عليها، فهي على مسافة بائنة من الطريق المتشعب الذي اختار الإخوان أن يسلكوه. وجاء «الطيب» على سدة هذا الكرسي الجليل بعد الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي نكل بسمعة المؤسسة الدينية الرسمية وبدا مرادفًا لمعان وممارسات، ربما ليس من اللائق وصفها بألفاظها التي تستحقها.
ومن ثم، فإن سلوكه عرضة للاستحسان الجماهيري عمومًا، لأسباب تتعلق بأداء سلفه الراحل، خاصة إذا تصدى للسلطة الحاكمة، في تعويض نفسي غريب عن عدم تصدي سيد طنطاوي لمبارك، ولعوامل تتعلق بآمال قطاع عريض من الجمهور في أزهر وطني ثوري.
لم يكن «الطيب» معارضًا لمبارك ولا حتى متذمرًا منه، وبدا خطابه لشباب الميدان خلال أيام الثورة أقرب للتذبذب النفسي الذي لا يدري علام يكون الرهان، وإن كان ميله الشخصي وترجيحه الفقهي وتقديره السياسي ومصلحته الخاصة كلها تذهب لبقاء مبارك.. أو هكذا تفلتت المعاني والإشارات -عفوًا- في خطاب الرجل.
***
حين تقرر تعيين الدكتور أحمد الطيب شيخًا للأزهر، نشرت الأهرام صورته وسط أهله في الأقصر متلقيًا التهاني بالجلباب الصعيدي والعمامة الصعيدية قبل أن يتدثر الملابس الرسمية للمشيخة. وفي هذه الصعيدية وما تحمله من عند، وفي ثأره لما يعتقد أنه من كرامته (ثم كرامة مؤسسته؟) لن يستقيم خط العلاقة المنحني بين «الطيب» والإخوان.
وربما يجدر التأكيد على أن المؤسسة العسكرية المصرية، ثم هيئة الأزهر الشريف هما حجرا الزاوية اللذان يحتاجهما الحاكم أيًا ما كان توجهه، لدعم خطاه. فالجيش أكبر وأقوى مؤسسات البلاد، والأزهر نسخة الشرعية الدينية التي يمكن خلق حالة التفاف ديني ومجتمعي حوله في وقت قصير.
وإذا كان نظام الإخوان يحس بقلق عميق تجاه رسائل المؤسسة العسكرية المثيرة وتجاه رغبات قوى إقليمية في «تركيبها» الحكم، فإنه يحس بنفس القلق تجاه المؤسسة الرسمية الدينية الأهم، وسط سيرك التيارات الدينية وفتاواها الكوميدية.. ومن ثم فهي رغبة صريحة في مصادرة المنبر الديني الأهم.
لا يعارض «الطيب» الإخوان ولا يلاعبهم كما يفعل الجيش.. لكن وقوف «الطيب» فقهيًا وفكريًا، ربما لعوامل لا دخل له فيها، حجر عثرة أمام المشروع الإخواني بمشتملاته وملحقاته، يجعله شخصًا غير مرغوب فيه، لاسيما وأن الثأر مازال مذاقه في الضلوع لم يبرح.. ثأر الإخوان من «الطيب» وثأر «الطيب» منهم.