يدخل مواطن إلى كشك خشبى فى أقصى القرية، يجلس أمام موظف يرتدى نظارات سميكة وفى يده قلم جافّ وورق أبيض رسمى مختوم، يبدأ المواطن فى حكاية الحلم الذى رآه فى المنام مؤخرا، تفاصيله الدقيقة وصوره التى مرَّت وكلماته التى عبرت والوجوه التى شاهدها فيها، ينتهى الموظف من كتابة الحلم بحذافيره،
لا ينسى أن يتوقف ويستوضح من المواطن بعض الحوادث التى خفيت عليه وصعبت على فهمه، يدوِّن الموظف الحلم ويكتب عليه رقمه وتاريخ تدوينه ويضعه فى ملفّ ضخم امتلأ بأوراق سجل فيها أحلام الناس، وفى نهاية الأسبوع تأتى عربة أحصنة يقودها سائق ومعه موظف أعلى درجة، يدخلان الكشك، يتسلمان الملف الأسبوعى، ويوقِّع الجميع على دفتر تسلُّم، تنطلق العربة حتى تصل إلى محطة القطار عند مقصورة محددة، يدخل الموظف، يسلِّم الملف لمسؤول آخر يدوِّن رقم الملف وتاريخ تسلُّمه ويتأكد من أختامه، ويضع الملف فى المكان المخصص لهذه القرية. تكدست الملفات فى مقصورة المسؤول الذى يسافر بها أسبوعيا بعد أن يتسلمها من محطات القرى والمدن، يصل إلى العاصمة حيث ينتظره موظفو الاستقبال الذين يتسلمون منه العهدة وينطلقون إلى الإدارة المخصصة المعروفة باسم «قصر الأحلام»، يدخلون فى سيارة كبيرة تشبه سيارات البريد أو نقل الأموال، يتسلم الأحلامَ القسمُ الأول فى هذه الإدارة المسؤول عن فرز الأحلام حسب القرى والأشخاص ووظائفهم، بعدها تقوم إدارة أخرى بقراءة الأحلام وتصنيفها حسب كل حلم، هل هو سياسى، دينى، جنسى..
ثم يأتى دور قسم آخر مهمته محاولة تفسير الأحلام، ثم إدارة عليا مسؤولة عن اختيار الحلم الرئيسى المهم الخطير وتقديمه بتفسيره إلى الإمبراطور بعد صلاة كل جمعة، وبناء على هذا الحلم يقرر الإمبراطور شؤون البلاد، هل يخوض حربًا، هل يغيِّر وزيرًا، هل يقضى على مُعارِض؟!
ولأن الإمبراطور يؤمن بالأحلام وتفسيرها فقد أصبح قصر الأحلام أهم مؤسسة فى البلاد، بل قيل إنها بدأت فى دسّ أحلام بعينها ذات تفسير خاصّ حتى تُملِى على الإمبراطور سياسات محددة لصالح أصحاب النفوذ والمال فى الدولة.
هذه الأحداث الغريبة أرويها بتصرف عن رواية الأديب الألبانى الساحر إسماعيل قدرى، ويبدو أن هذه التفاصيل الخيالية تسمح لنا بإعادة النظر فى أهمية وخطورة الأحلام فى حياتنا، بل فى عالمنا السياسى.
لكن بعيدا عن روعة الرواية وجمالها، فكلما تذكرت تفاصيلها فكرت فى هذا السؤال: ماذا نرى فى منامنا؟ هل فكّرنا فى حياتنا فعلًا من خلال أحلام النوم؟ عن نفسى آخر حلم رأيته فى منامى أننى أسير على مزلقان فإذا بقدمى تنحشر بين قضيبين ملتصقين، أحاول أن أنزع قدمى فأفشل، أحاول ثانية فلا أقدر، وهناك قطار سريع قادم نحوى وقدمى مشبوكة فى القضبان.
القطار يقترب وأنا أتعثر، أتوتر وأهذى ورجلى محشورة لا أستطيع الحركة.. أصحو دون أن أعرف هل مِتّ أم عُدت إلى الحياة! والأمر كله يشبه فاتن حمامة فى فيلم «نهر الحب»، حيث تجلس فى سيارة على المزلقان والقطار قادم والسيارة تتعطل والأبواب موصدة، تحاول النزول فلا تستطيع، تحاول الحركة بالسيارة فلا تقدر، وابنها يناديها «ماما.. ماما». وقد أعجبنى تفسير الطبيب لهذا الحلم فى الفيلم، لأن السيارة هى حياتها التى ضاقت بها، والأبواب الموصدة هى القيود والضغوط التى تحيط بها، والقطار هو الموت الذى يطاردها وتخاف منه أو الخلاص الذى تنتظره، وابنها هو الشىء الوحيد الذى يربطها بالحياة.. وأنا مقتنع بهذا التفسير رغم أن زكى رستم قال عليه «هذا كلام فارغ»!