اعتمدت الصورة الإعلامية فى السينما لعقود طويلة على صورة مشوهة، إذ اكتفت السينما بتقديم الصحفى الباحث عن سبق صحفى بأى طريقة، ويستخدم مصطلحات لا تمتّ بصلة إلى الصحافة، مثل كلمة «ريبورتاج» التى استخدمتها السينما حتى عصر قريب، بل والجريدة التى تنتظر مطبعتها مقالًا صحفيًّا لكاتب، على الرغم من مشاركة صحفيين فى كتابة سيناريوهات الأفلام.
وكما يذكر المؤرخ السينمائى محمود قاسم لم يكُن الصحفى سوى شخص هامشى يقترب من الفنان بعد نجاحه فى حفل، كى يطرح عليه أسئلة تتسم بالسذاجة الغريبة، ولم يكن الصحفى سوى محرر فنى يتبعه مصور يلتقط الفضائح وينشرها ليحقق المكاسب المهنية. ويُعتبر فيلم «ليلى بنت الأغنياء» لأنور وجدى سنة 1945، هو الفيلم الوحيد الذى ظهر فى الربع الأول من تاريخ السينما وكان بطله صحفيًّا، لأنه مقتبَس من فيلم أمريكى شهير هو «حدث ذات ليلة».
بعد هذا الفيلم ظلت صورة الصحفى مقترنة بالتفاهة والسذاجة حتى جاء إحسان عبد القدوس وكتب روايته «أنا حرة» التى تحولت إلى فيلم عام 1957 من إخراج صلاح أبو سيف.
وتكررت صورة الصحفى المناضل بعد ذلك فى أفلام «الكداب»، و«امرأة واحدة لا تكفى»، و«الرجل الذى فقد ظله»، وهى كلها أفلام ألفها صحفيون.
حسب محمود قاسم، السينما قدمت الصحفى المغامر، وهو ما لا يحدث كثيرا فى الواقع، حتى لصحفى الحوادث فى الصحف والمجلات، وكذلك قدمت السينما حكايات ساذجة عن محرر باب الرسائل الذى يحل مشكلات القراء بأن يتزوج بإحدى القارئات.
الصحافة مهنة ابتذلتها السينما
■ ■ ■
«اغسل يديك جيدًا قبل الأكل وبعده»، «انظر على يمينك ويسارك قبل أن تعبر الطريق»، «لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد».. عبارات يتذكرها كل تلاميذ المدارس الابتدائية فى السبعينيات والثمانينيات، وهى مطبوعة على الغلاف الخلفى للكراسات الحكومية، المدهش فى 2013 أن تشاهد فيلما على طريقتها، يخاطب مشاهديه كأنهم تلاميذ صغار ويوجه الرسالة مباشرة إلى آذانهم، وللتأكيد يعيدها بتركيز أكبر فى أغنية الفيلم حتى لا تفوت أحدًا، مختزلًا دور السينما بطريقة فجة ومباشرة انتهت منذ ستينيات القرن الماضى.
كأن أحمد مكى فى فيلمه الجديد «سمير أبو النيل» يعيد وبطريقة أسرع مما تخيل أشد المتشائمين قصة سقوط «محمد سعد»، النجم الذى لمع يومًا ما فى الماضى، والذى كتبتُ عنه منتقدًا منذ فترة «تتحدث دائمًا تلك الأساطير التى نرويها لأطفالنا عن ذلك الأمير الذى سحرته ساحرة شريرة لغرض ما، حوَّلته غالبًا إما إلى ضفدع وإما إلى وحش مخيف، وتدور الأسطورة دائمًا حول محاولة هذا الأمير استعادة آدميته وشكله الحقيقى، والذى يتم عادة عبر حب صادق، أو قبلة من أميرة عشقته على حاله المتحول، فاستحق أن يعود لطبيعته الأولى».
يشبه هذا تمامًا فنانًا مصريًّا صاحب قدرات تمثيلية هائلة، حتى التقى ساحرته الشريرة، لتحوِّله من أمير يشق طريقه إلى عرش الكوميديا إلى وحش، لتتضخم قوة الوحش الذى حولته الساحرة داخل الأمير، فيتراجع رويدًا رويدًا حتى ينهزم مثل كل وحوش الحواديت».
وهو للمصادفة كلام ينطبق بشدة على النجم أحمد مكى، بخاصة بعد تقديمه آخر أفلامه «سمير أبو النيل»، الذى كتبه أيمن بهجت قمر وأخرجه شريف عرفة، والذى فشل لأكثر من ساعة ونصف فى انتزاع أى ضحكة من مشاهديه لاقتباس كل إفيهاته من صفحات «فيسبوك» و«تويتر»، من خلال شخصية مسطحة تمامًا ثقيلة الظل، إذ لم يقدم أيمن بهجت قمر أى جديد، ولم يُضِف إليه شريف عرفة أى لمسة، فخرج مكى بعيدًا عن مخرجه المفضل أحمد الجندى كيانًا مشوَّهًا لا يصلح للإضحاك ولكن للشفقة.
لكن الأهم وما يخص هذا المقال المختص بالمجال الإعلامى، كان الصورة التى نقلها الفيلم عن قناة فضائية جديدة قرر مالكها «سمير أبو النيل» تقديم كل البرامج فيها، وبالفهلوة المصرية المعتادة بالإضافة إلى تقليد الإعلامى توفيق عكاشة لمدة تزيد على 45 دقيقة تَفرَّغ مكى بمعاونة قمر وعرفة لتحويل الإعلاميين إلى مجموعة من الأراجوزات، لا يتمكنون من الوصول إلى المتفرجين إلا عن مجموعة من طرق النصب عبر مكالمات مسجلة وجوائز عينية للمشاهدين، المنبطحين دائمًا أمام حاجتهم المادية.
بل ووصل الأمر بصناع الفيلم إلى تجاوُز إهانة المصريين والانطلاق عالميا لإهانة زعيم ومناضل دولى فى حجم مانديلا، بحثًا عن إفيه رخيص، وفى نهاية الفيلم تتحول القناة بعد عودة الضمير لمالكها المؤقت إلى قناة دينية تمارس النصب بطريقة أخرى على المشاهدين.
كأن الحقل الإعلامى مجال لا ينجح فيه سوى المحتالين، ويصور الشعب المصرى شعبًا رخيصًا يبيع نفسه أمام عُمرة أو ثلاجة أو جهاز تكييف، بغضّ النظر عن «الأكليشيه» السينمائى لصورة الصحفى، الأقرب إلى مخبر ينتحل دور رجل مخابرات فى فيلم رسوم متحركة. السينما تواصل ابتذال الصحافة والإعلام.. كأن ثورة لم تقُم وكأن نظامًا لم يسقط.
■ ■ ■
أعزائى الإعلاميين فى عصر مثل عصرنا، بعدما صارت الفضائيات عرضة لكل من هبّ ودبّ، وصارت الشاشات وسيلة جيدة لتوصيل البذاءات والكذب لداخل البيوت، علينا أن نلوم أنفسنا قبل أن نلوم الفيلم، الذى لولا مباشرته وسطحيته وابتذاله لكان قدَّم نقدًا جيدًا لما وصل إليه الإعلام، وإن لم يتم العمل على ميثاق شرف صحفى يرتفع بمستوى الإعلام، ويمنع «مسيلمات» هذا الزمان من اعتلاء ميكروفوناته، ويقدم خدمة حقيقة وجيدة للمشاهدين، فعلى الإعلام المصرى السلام.
وإن لم تتوقف أكشاك الفضائيات عن تقديم الفتاوى على الكيف، وبيع اللصقات الطبية، وعرض الأفلام دون شراء حقوق عرضها، وخدمة فصيل ما دون النظر إلى المصداقية والمرجعية وحقوق الملكية، ودون محاولة بذل أى جهد للحصول على المعلومة عملا بمبدأ «المشاهد بتاعنا ياخد اللى بنقدمه وهو ساكت»، فلا تغضبوا على صورتكم التى تُمتهن.. حتى فى ما يشبه السينما.
أفيقوا يرحمكم الله.