عندما كنت طفلاً، فى الخامسة والسادسة أو السابعة، كان والدى الدبلوماسى بسفارتنا بموسكو يتلقى دعاوى لحضور احتفالات عيد العمال، وكل سنة كنت أتطلع لمصاحبته إلى الميدان الأحمر فى تلك المناسبة الجاذبة لعقل الطفل.. على عكس احتفالات ذكرى الثورة البلشفية- التى كانت تستعرض، خلال غيوم خريفى مثلج، قافلة طويلة من الصواريخ العابرة للقارات- تشبعت احتفالات مايو بروح الربيع وشمس ساطعة، مطلة على ألوان وموسيقى طوابير «العمال» ذوى الزى الزاهى، الرافعين آلاف الأعلام المعبرة عن اتحاداتهم فى مختلف المجالات وأنحاء الإمبراطورية السوفيتية الممتدة عبر 11 ساعة توقيت زمنى.
لا شك أن صدى ورنين ذكرى روح وألوان الربيع السوفيتى استمرا حتى أيام المراهقة والشباب، داعمين لقناعتى بأن اعتناق «الثورية الاشتراكية» هو سبيل تحرير الإنسانية عامة، ودعم الكادحين فى الأرض خاصة (وكان ذلك الموقف متأثراً أيضاً بعقدة الذنب التى تواجه المتهم دائماً أنه «ابن سفير متدلع»). ثم بدأت الصدمة مع بداية انهيار النظام الشيوعى فى بولندا: فمن كان يقود المقاومة هم العمال، خاصة عمال ميناء «جدانسك».
أدت تلك «الاكتشافات» بالطبع لمراجعة مواقفى من «الناصرية».. فمنذ منتصف الستينيات- عندما حلت الحركة الشيوعية نفسها وانضمت إلى التيار القومى السائد- صارت هناك علاقة شبه عاطفية بين معظم قطاعات اليسار المصرى وبين الناصرية. ذلك رغم أن عبد الناصر كان قد نشأ فى اليمين المتطرف- فكان «قميص أخضر» فى حركة مصر الفتاة شبه الفاشية، وكان قريباً من (أو ربما حتى كان أخاً عاملاً فى) الإخوان، مثله مثل معظم الضباط الأحرار- ورغم أن ذلك انعكس بوضوح حتى فى تجربته «الاشتراكية»، التى كانت أقرب لتجارب اليمين المتطرف، أى القومى الاشتراكى، عنها إلى تجارب اليسار، حتى فى صورته السوفيتية الشمولية الممسوخة.. مع ذلك فهناك سمات تشابه قد توحى بـ«يسارية» الناصرية.
بين أهم ما جمع أنظمة اليسار واليمين الشمولية محاولة السيطرة على أداة الإنتاج ومفاتيح الاقتصاد- ليس لتمكين العمال من مصانعهم، كما تفترض الاشتراكية فى صورها الأكثر مثالية، إنما لتمكين الدولة من الفرد، وفرض قيود على استقلاليته وحرية حركته، أما ما جعل التجربة الناصرية أقرب إلى «الاشتراكية القومية» هو عدم الوصول بعملية التأميم لحد تحريم الأعمال الخاصة وضرب الرأسمالية الصغيرة، طالما لم تتعارض مع النظام أو تعوق رأسمالية الدولة وأهل الثقة الذين يديرونها.. وأوجه تشابه الحكم الناصرى وأنظمة اليمين المتطرف الأوروبية فى النصف الأول من القرن العشرين موجودة أيضاً فى منظومة الضمانات الاجتماعية التى وفرها للعمال وغيرهم مقابل نبذ العمل السياسى والنقابى المستقل.
صاحب التحول نحو «الاشتراكية القومية» فى مصر ظهور نهج فكرى يتصور وجود صراع جدلى جديد.. ليس بين الطبقات كما اعتقد «ماركس»، إنما بين الأمم، خاصة بين منابع «الهيمنة» وبين الشعوب المهيمن عليها. صراع لا يقتصر على الاقتصاد، بل يتطرق لعمق الهوية ويتصور تصادما حتميا من أجل «الهيمنة». وترجع أسس تلك الافتراضات إلى حركات اليمين المتطرف، مثل مصر الفتاة والإخوان أكثر مما ترجع لأصل اليسار المصرى الذى نشأ كحركة متعددة الثقافات.
فى هذا السياق ليس من الغريب أن يعيد الرئيس الإخوانى الحديث الناصرى عن «الدوائر» الحيوية- العربية والإسلامية والأفريقية- أو أن يسعى لاستمرار تمكين الدولة من مفاتيح الاقتصاد، لأن ذلك يسهل السيطرة واستكمال صراع الهوية داخلياً وخارجياً. لكن، عملا بتقاليد الاشتراكية القومية الشعبوية، لن يقوم بتأميم كامل للاقتصاد، لكنه سيحاول رشوة العمال وغيرهم بضمانات قصيرة الأمد، فى مقابل السيطرة السياسية.. مع دعم رأسمالية الدولة وأهل الثقة- لكن من المقاولين والسماسرة هذه المرة وليس الصناعيين، فكما قال «ماركس»: التاريخ يعيد نفسه، أول مرة كمأساة وثانى مرة كهزل... وللأسف، الهزل له هيبته وجاذبيته عند بعض العقول، تماماً مثلما كانت احتفالات «مايو» السوفيتية تثير بهجتى منذ ما يقرب من أربعة عقود.