تنتشر فى الريف المصرى والأحياء الشعبية والعشوائية ظاهرة الانتحار حرْقًا، يدلق الشخص المنتحر على نفسه صفيحة جاز ويولّع فى نفسه فيحترق ويموت.
ولسنا فى حاجة إلى تأكيد أن الانتحار مذموم ومرفوض إنسانيًّا ودينيًّا، فهذا لا شك فيه، لكن ألا يسترعى الانتباه فعلا أن يكون الانتحار بتوليع الجاز والنار فى جسد الشخص هو الأشهر فى طرق الانتحار فى مصر؟ حاجة غريبة حقًّا!
غريبة إلى الدرجة التى انتشر معها تعبير يومى حينما نغضب من أحد ونرى أنه لم يعد يهمنا، أو أن ردود أفعاله لم تعد تشغلنا، باختصار رمينا طوبته، فإذا نبَّهَنا أحد إلى أنه قد يغضب، نقول «يتحرق» أو «إن شا الله يولع بجاز».
هذا فقط دليل الانتشار إلى الحد الذى جعل الانتحار بالحرق جزءًا من ثقافتنا اليومية وكلامنا المأثور، الغريب هنا أن الانتحار بالحرق أمر قاسٍ وعنيف وملىء بالعدوانية تجاه النفس وتجاه الآخرين، فالمنتحر أمامه أن يتخلص من حياته بأن يعبّ زجاجة بوليس النجدة، أو يقطع شريانه مثلا، أو يضع كل مخزون الأسبرين لأى أجزاخانة فى جوفه.. وخلاص، يخلص ويخلّصنا، لكن المنتحر بجاز لا يريح ولا يرتاح، بل هو مقصود تماما فى اختياره، فالشخص حينما يولّع فى نفسه فالجميع فى البيت وحتى الجيران مهددون بأن تشبط النار فى حطب أو ستارة وتأكل الجميع، ومتابعة الناس لمشهده وهو يحترق تزلزل نفوسهم وتصبح كابوسًا فى حياتهم لا يمكن أن يتحرروا منه بسهولة، وهو ما يريده المنتحر، أن يتعذبوا كما يتعذب ويتألموا بألمه، ثم المنتحر نفسه إذا نجا من الموت فقد لا ينجو من التشوّه (...)، قسوة بالغة ومدمرة مع النفس ومع الآخرين، تنمّ عن أنها صادرة عن إنسان فاقد الأمل مُحبَط حزين إلى درجة مذهلة موجعة، مخنوق موجوع يشعر أن كل الطرق انسدَّت فى وجهه، وقع فى أزمة طاحنة.
ولكن هذا الإنسان يتخير الموت بالحرق للإعلان عن مدى كراهيته لنفسه قبل كراهيته للآخرين.
هذا فى الحقيقة، ومن الآخر، ما تَحوَّل من الأشخاص إلى المجتمع!
المجتمع فى حالة غريبة من التخبط والتشاؤم، والحقيقة جعلته حين يحاول الإعلان عن غضبه فإنه لا يختار وسيلة أكثر رِقَّة وأقل عنفًا بل يختار أن يولع بجاز، كل مظاهر غضبه انتحارية الهوى، عدمية الهدف، عدوانية الوسيلة كأنه يُشعِل الحريق فى نفسه لكى يصيب كل أبنائه بالنار.
الفارق الوحيد بين الشخص حين يشعر بالنار والمجتمع حين يشعر بالنار.. هو حجم الصفيحة!