يومها ذهب محمد، الشقيق الأصغر لحسن مُصطفى، إلى شارع صفيَّة زغلول كي يشتري له سجائر قبل زيارته في محبسه، توقف أمام البائع «شريف»، وطلب ثلاث عِلب، نوع السجائر وشراؤها بالجملة دفعا شريف لسؤال محمد عما إذا كان يعرف «حسن مُصطفى»، فأجاب بأنه شقيقه، فرد السائِل «ربنا يفُك سجنه قريّب، أنا كنت بدوَّر على أي حد رايحله عشان أبعتله السيجار اللي بيحبه».
البائع الذي يعمل بهامش رِبح يومي ضئيل أرسل ثلاث علب سجائر بـ105 جنيهات إلى حسن، رافضاً بشكل كامل أن يأخذ ثَمنهم، وتمنَّى فقط على أخيه أن يأخذه لزيارته يوماً إن استطاع.
«حسن أخويا مش بيخاف»:
لنبدأ كُل شيء من وقتٍ أسبق، كَي تعرف حَسن مُصطفى بشكلٍ جيد، كي تفهم لماذا أرسل له بائع متوسط الحال علب سجائر غالية الثمن، ولماذا جاء الجميع من مختلف المحافظات إلى الإسكندرية قبل ثلاثة أسابيع كي يتضامنوا معه أثناء محاكمته، لا تَدع أحد يُخبرك بوصفٍ له.. لا أنه ثائر ولا مُناضل ولا نَصير للغلابة، فقط دَعهم يَحكون عَنه.. واترك صورته تتشكَّل في ذهنك.
ناشِط سياسي ضمن بضع عشرات قبل الثورة، يُحوّلون الإسكندرية إلى نُقطة مُقاومة وصَخب ضد نظامٍ في أوجِ قوته، قضية «خالد سعيد» أصبحت شأناً شعبياً بفضل الفعاليات المستمرة التي يقومون بها، كتلك المرة في رمضان 2010 بجوار بيت «خالد»، حين اقترح «حسن» أن تُقام محكمة شعبية لقاتليه، قام بدور القاضي، وحكم بالسجن على عدة أسماء، من ضمنهم مُدير أمن الإسكندرية، وحين جاء رجال الداخلية وحاصروا الفعالية وطلب مدير الأمن الحقيقي أن يتحدث مع حسن، أجابه بسخرية «إنتَ جاي تتكلم معايا ليه؟ أنا لسه حابسك من شوية».
ذلك التعامل المُستهين مع السُّلطة وتلك الحدّة والقوة وعزّة الحَق هي ما جعلت لـ«أمن الإسكندرية»- على اختلافِ الأسماء- ثأثراً شخصياً مع حسن، كذلك اليوم الذي جرت فيه مظاهرة ضد التوريث في أواخر 2010 وقبض كالعادة على بضع عشرات من الشباب، مدير مباحث الإسكندرية حينها أمر المخبرين بأن يكون حسن هو الوحيد الذي يُربط بكلبش، قبل أن يشارك في ضربه بنفسه ويحاول كسره بوضع حذائه على وجهه، رِفاق حسن هالهم ما حدث، مَسحوا رأسه بملابسهم وقبلوها، وحسن كان مُبتسماً.. أخبرهم بذاتِ القوة التي عُرِفَ بها أن هناك ضرائب يَجب أن تُدفع.. فـ«نِدفعها إحنا وإيه يعني».
وحسن ظَل يَدفع تلك الضرائب حتى بعد الثورة، مُصاب بطلق ناري في اقتحام أمن دولة الإسكندرية، بعض الكسور والخراطيش في الانتفاضات المتتالية على مدار شهور مُبارك أو الداخلية أو العسكر، وصولاً إلى المُرشد، في كل مرة كان حسن يَثور ضد الظلم ويهتف بسقوطه يكون مُستعداً للضريبة ويَدفعها.
ولكن الأهم من أي شيء في سيرته كان تواجده الدائم في كل مَسْعَى للحق، عمَّال الزيت والصابون في الإسكندرية يتذكرونه جيداً، لأنه ظل معهم لأيامٍ أثناء اعتصامهم لرفع الأجور في 2011، أهالي عزبة العرب في المعمورة لا ينسون تواجده في كل فعالياتهم ضد المُحافظة بعد هدم منازلهم، الباعة الجائلين بمحطة مصر والنبي دانيال يَعرفونه بالاسم، بعد أن تضامن معهم وكان أول من اقترح عليهم إنشاء جمعية تنطق باسمهم وتمثلهم. كل من له مَظْلَمَة في المدينة كان يعرف حَسن.
«كل السلطة منه تخاف»:
هُناك طريقة ما لنحكي عن القبض على حسن، طريقة تجعلها حكاية عن الظُّلم والقَهر والأوضاع التي لم تتغير قبل الثورة وبعدها، سنقول إن الداخلية التي لفقت لحسن قضية اعتداء على ضابط في 2010 ليتم الحكم عليه بالحبس لمدة شهر، عادت لتلفق له قضية اعتداء على وكيل نيابة حين ذهب ليدافع عن أطفالٍ مُحتجزين، ويتم الحكم عليه بالحبس لمدة عامين. يمكن أن تكون الحكاية حزينة جداً بتلك الطريقة.
ولكن، بشكلٍ شخصي، أفضل طريقة أخرى لسردها: قبل عدة أشهر من الآن لم يكن أحد خارج الإسكندرية يعرف شيئاً عن حسن، كانت قصة عظيمة غير مُحتفى بها، قبل أن يخرج كل شيء للنور مع تلك القضية، صِرنا نعرفه، نتحدث عنه، نَحكي قصصه باحتفاء، نُرسل له التليغرافات، ونستقبل منه المقالات المَكتوبة على ورقِ السجن، نذهب إلى الفعاليات المُرتبطة باسمه مُتضامنين، كيوم 13 أبريل الماضي أمام محكمة المنشيَّة أثناء جلسة الاستئناف في قضيته، لنجد كل الوجوه طيّبة ومُبتسمة، نَهتف للورد اللي بيفتَّح وحسن الذي صار بضعًٌا منا، قبل أن نَسير إلى بيته، ونَجبر بخاطِر والدته حين تَجِد أحبابه بالآلاف، وفي كل هذا يبدو الوَجه الأكثر حُسناً للثورة: حكاياتنا الخاصة التي نخلقها كل يوم عن أبطالٍ شعبيين لنتُذكر أسماءهم في الكُتب.
«ولكن آفة حارتنا النسيان»:
المُشكلة أن تلك اللحظة التضامنية الكبيرة قبل عدة أسابيع كانت ذروة قضية حسن، التغطية الإعلامية للقضية أو دعوات التضامن المتتالية من محافظاتٍ كثيرة، كان الحماس في أوجِه ككل شيء في مرته الأولى، ولكن مع تأجيل الاستئناف لعدة أسابيع، تبدو الأمور الآن، وقبل يومين من موعد الجلسة الثانية يوم السبت 4 مايو، أخفت بكثير.
السلطة تراهن بشكل مستمر على النسيان وفتور الحماس، قم بالتأجيل لمدة شهر وبدلاً من خمسة آلاف متضامن لن يحضر سوى ألف، ستصبح الأمور مملة عند تكرارها لمرة ثالثة، لن يأتي سوى مئتين أو ثلاثمائة، وقتها يُمكن أن تفعل ما تُريد.
هذا ما يحدث كل مرة، لأننا بشر.. ولأن الفِطرة تجعلنا نُصاب بالتعب والملل وفتور الحماس، ولكن في المُقابل.. يجب علينا أن نحاول، نُحاول بشدَّة، أن نجعل الأمور تسترد حماستها لنملك القدرة على الذهاب والتضامن والهتاف، نُذكر أنفسنا بحكايات الشاطِر حسن وما فعله، وأن الأمل الوحيد في خروجه إلى النور أو على الأقل تخفيف الحكم، هو كثرة الأصوات التي تُنادي باسمه والوجوه التي تجتمع لأجله، فتكون الأهل والسَّنَد والزَّاد الذي يَحْمي ظَهره.
لا أعرف الكثير عن مسارات الثورة المُستقبلية، ماذا سيحدث أو أين سنصل.. ما أعرفه فقط أن كل تضامن مع مظلوم ورفع لمَظْلَمة هو انتصار لروحِ الثورة، لذلك انصروا حسن.. انتصروا لأنفسكم فيه.