«نظر (التيس) فى المرآة فرأى من يشبه أباه».. هذا هو مطلع قصيدة شهيرة نظمها «د. نصَّار عبدالله» الطالب فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حول منتصف ستينيات القرن الماضى، ولا أزال أتذكر بعض أبياتها وإن كانت قد سقطت منى بعض الكلمات منها، ولقد أردت أن أكتب اليوم عن زميل الدراسة متعدد المواهب الغنى بالإمكانات الفكرية والثقافية والأكاديمية،
لم يقنع بدرجته العلمية من كلية الاقتصاد فاقتحم مجال «الفلسفة» وحصل على الدكتوراه فيها، وأصبح أستاذاً بجامعة «سوهاج»؛ حيث ينتمى إلى عائلة عريقة هناك كان، من أقطابها القاضى الشهير «ممتاز نصّار» الذى قاد الرأى العام القضائى فى ظروف صعبة، ثم قاد الرأى العام البرلمانى فى ظروف أكثر صعوبة. إننى أكتب عن «د. نصَّار عبدالله» الشاعر والفيلسوف والسياسى لأنى أرى فيه نمطاً عصرياً للشخصية الموسوعية التى عرفها تاريخ الحضارات، وتكمن قيمته الحقيقية فى استقلالية رأيه وانتصاره للحق وانحيازه للعدل وفهمه الصحيح لظروف الشعب الذى ينتمى إليه والمجتمع الذى خرج منه، وكلما طالعت كتاباته حتى فى عموده الصحفى أدركت أن وراء «الأكمة» ما وراءها من فكر متوهج وثقافة رصينة وفلسفة تتسم بالحكمة والوضوح معاً، وعندما رشحته إحدى الجامعات لجائزة الدولة التقديرية منذ عدة أعوام وجدتنى أنبرى فى حماسٍ شديد لدعم ذلك الترشيح والتصويت له فى «المجلس الأعلى للثقافة» لا لأنه زميل دراسة فقط ولكن لدوافع موضوعية بحتة تدرك قيمته وتعرف مكانته.
إننى أسعى من الكتابة عن «د. نصار عبدالله» إلى أن ألفت الأنظار إلى نوعية من المصريين يمثلون خير تمثيل الوطن المصرى وتكوينه الثقافى وتنوعه الحضارى وتاريخه العريق، ولا عجب فالصعيد المصرى يقذف بين حين وآخر بعبقريات فريدة وشخصيات نادرة، ولا غرو فهو صعيد «مينا نارمر» و«جمال عبدالناصر» و«رفاعة الطهطاوى» و«طه حسين» و«العقاد» و«المنفلوطى» و«المراغى» و«محمد محمود سليمان» بالإضافة إلى بيت «عبدالرازق» الذى قدم للوطن شخوصاً رائعة وظفت الثروة لخدمة العلم والثقافة، فضلاً عن العائلات القبطية العريقة مثل عائلة «مكرم عبيد» وعائلة «بطرس غالى» وعائلة «فخرى عبدالنور» وغيرهم من ألوان الطيف الفكرى والسياسى فى تاريخ الأمة المصرية،
فكل حجرٍ فى «الصعيد» يخفى تحته سطوراً ناصعة من تاريخ «مصر» لأنه صعيد الرجال والعلماء والأدباء والشعراء، ولا يخالجنى شك فى أن سبيكة «د. نصار عبدالله» تمثل ذلك الزخم من التألق الفكرى والالتزام الوطنى والرؤية الفلسفية العميقة، وأعود إلى سنوات الدراسة لأرى «د. نصار عبدالله» يتحدث إلى زملائه فى ثقة زائدة ويتصرّف برجولة مبكرة جعلتنا جميعاً نوقره ونحترمه ونحبه،
ولا أكاد أعرف إلا اثنين من خريجى كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» غيّرا مسارهما الأكاديمى بعد التخرج، الأول هو الأستاذة «منى ذوالفقار» التى درست «القانون» بعد انتهاء دراستها من «الاقتصاد والعلوم السياسية» لتصبح واحدة من المحاميات المرموقات فى المجال القانونى والسياسى معاً إلى جانب أنها مدافعة شرسة عن الحريات وحقوق الإنسان، بينما اتجه «د. نصار عبدالله» إلى أم العلوم وهى «الفلسفة» برحابتها وعمق أبعادها واتساع آفاقها..
تحيَّة للفيلسوف الصديق وللأكاديمى زميل الدراسة الذى انتقل من مقاعد دارسى تاريخ الفكر السياسى والاقتصادى إلى تاريخ الفلسفة وعلوم الحضارة وأغوار الثقافة وظل متمسكاً بصعيديته الرائعة يعيش وسط أهله فى محافظته التى يعتز بها الجميع، حتى إن بعض الدول العربية تعطى أولوية رسمية للعاملين فيها والقادمين إليها لأبناء «سوهاج» تلك المحافظة الطيب أهلها المعتدل جوها.. بارك الله فى «د. نصار عبدالله» وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.