أكبر ٤ جنازات خرجت من ميدان التحرير: سعد زغلول - عبد الحكم الجراحى - مصطفى النحاس - جمال عبد الناصر.. ثلاثة منهم معروفون لجموع المصريين. فماذا بخصوص رابعهم عبد الحكم الجراحى؟
ظل الدستور هو سؤال المصريين الرئيسى طوال القرن الـ٢٠ وحتى اليوم. يوم ١٥ نوفمبر ١٩٣٥ طلعت مظاهرة من جامعة فؤاد الأول «القاهرة»، متجهة إلى السرايا تطالب بإلغاء دستور ١٩٣٠ والعودة إلى دستور ١٩٢٣. كان الطالب عبد المجيد المرسى يتقدّم المظاهرة رافعًا العلم. وفى منتصف كوبرى عباس أطلق عليه ضابط إنجليزى الرصاص. هوى المرسى إلى الأرض. وقبل أن يسقط العلم على الأرض، تناوله من يده زميله الطالب عبد الحكم الجراحى.
أصدر الضابط الإنجليزى أوامره بالتوقّف وإلا سوف يطلق النار، إلا أن عبد المجيد واصل تقدّمه.. يحكى الشاعر زين العابدين فؤاد، كيف تقدّم عبد المجيد وكيف أطلق الضابط الإنجليزى النار!! ١٣ خطوة خطاها عبد المجيد مقابل ١٣ طلقة من بندقية الضابط الإنجليزى، كل خطوة بطلقة، حتى سقط على الأرض. نقلوه إلى مستشفى قصر العينى.
يوم ١٧ فبراير، وبين إغفاءات الموت والحياة، استيقظ عبد المجيد.. فك الخيط عن جروحه.. وحط إصبعه فى جرح منها.. وبالدم الأسود، وعلى الحائط فوق رأسه، كتب: إلى المستر روح الشر رئيس وزراء إنجلترا.. أنا الشهيد المصرى محمد عبد الحكم الجراحى، قتلنى أحد جنودكم الأغبياء، وأنا أدافع عن حرية وطنى.. عاشت مصر.
رفض الجنود الإنجليز، الذين يحاصرون المستشفى، خروج جثة الشهيد، خوفًا من تحوّلها إلى جنازة تأجّج الغضب فى رؤوس المصريين.. ولكن كان لزملاء عبد المجيد، من طلاب كلية الطب، رأى آخر.. دخلوا المشرحة، كان فى رأسهم خطة بسيطة: شيل الورقة المكتوب عليها اسم الشهيد من على جثّته وتبديلها بورقة محطوطة على جثة ثانية. خرجوا حاملين جثة الشهيد إلى ميدان الإسماعيلية.. وتحوّلت جنازته إلى واحدة من كبرى الجنازات فى تاريخ ميدان التحرير.. لتتوالى مسيرات طلاب جامعة القاهرة من أجل الجلاء والدستور:
يوم ٩ فبراير ١٩٤٦ «بعد استشهاد عبد الحكم بـ١١ سنة» خرج الطلاب فى مسيرة جديدة نحو السرايا.. وفى منتصف كوبرى عباس فتح عليهم الإنجليز الكوبرى. قفز الطلبة فى النيل. فأنقذهم الصيادون بالمراكب النيلية الصغيرة. يوم ١١ فبراير قدّم النقراشى استقالته، ويوم ١٣ تشكّلت حكومة إسماعيل صدقى.. واحتفظ بوزارة الداخلية لنفسه.. يوم ١٨ فبراير شكّل العمال والطلبة، اللجنة الوطنية للعمال والطلبة.. ويوم ١٩ عملوا مؤتمرهم ووقفت لطيفة الزيات وهتفت ضد الملكية.. يوم الخميس ٢١ فبراير ١٩٤٦ قرروا المسير من الجامعة حتى ميدان مصطفى كامل فى وسط البلد، «باعتبار مصطفى كامل لا علاقة له بأى من الأحزاب الموجودة حينها». ولما وصلت المسيرة إلى ميدان الإسماعيلية تصدّى لها الإنجليز بالمصفحات.. طلع إسماعيل صدقى وقال إن المظاهرات كانت سلمية حتى اندسّت فيها العناصر المندسة.
يوم ٢٢ فبراير طلعت مظاهرات فى الهند لمؤازرة المصريين. وبينما كان الهنود يرفعون شعار «ارفعوا أيديكم عن مصر».. كان فى القاهرة يحدث شىء آخر.. اجتمع إسماعيل صدقى مع إخوان.. وتمخض الاجتماع عن قيام طلاب إخوان بتشكيل اللجنة القومية للطلبة.. كان طلاب جامعة القاهرة يناضلون من أجل الجلاء والدستور، وطلاب إخوان يتظاهرون من أجل الملك والحكومة.. وبينما كانت لطيفة الزيات تهتف ضد الملكية كان مسؤول طلاب إخوان فى جامعة القاهرة يخطب فى الجمع الإخوانى: واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صديقًا نبيًّا..
تصاعدت عدوانية طلاب إخوان تجاه الطلاب.. فلم يتوقّفوا عند حدود تحويل إسماعيل صدقى «واحد من أبشع رؤساء الوزراء فى تاريخ مصر» إلى آيات يتلوها طلاب إخوان.. بل اعتدوا بدنيًّا على الطلبة.. «يتوهّم الفاشى فى كل زمان ومكان، أنه يحتكر العنف. وقد تتصاعد هلاوسه إلى مراحل قصوى حين يعتقد أن الملائكة الغُر الميامين يقاتلون فى صفوفه»، يحكى أنور عبد الملك، جمعنا من بعض فلوس وأرسلنا مجموعة مننا تشترى كرابيج سودانى، نقعناها فى الزيت وانتظرنا هجوم إخوان. ولما جاؤوا رنّيناهم علقة، لم يعودوا بعدها للاعتداء علينا أبدًا..
■ من حكايات الشاعر زين العابدين فؤاد..