يعيش أقباط مصر هذه الأيام مناسبة أسبوع الآلام الذى ينتهى بعيد القيامة، وقد اعتاد المصريون على تبادل التهانى بالأعياد، واعتاد الأقباط على تلقى التهانى بالعيد من أشقائهم المسلمين فى عيدى الميلاد الذى يناسب السابع من يناير من كل عام، وعيد القيامة هو الذى يأتى فى يوم من شهرَى أبريل ومايو، وهو العيد الذى حدد الأقباط منذ زمن بعيد الاحتفال بشم النسيم فى اليوم التالى له مباشرة بعد صوم يدوم خمسة وخمسين يوما يسمونه بالصوم الكبير. نشأنا منذ الصغر نتبادل التهانى بالأعياد، ويعيش أهالينا فى صعيد مصر حياة مشتركة فتصوم سيدات مصريات مسلمات صيام العذراء مريم الذى يأتى كل عام فى الفترة من السابع حتى الثانى عشر من أغسطس، وتنعكس أجواء رمضان على الأسر المسيحية التى تعيش هذه الأجواء، كما يشارك الأقباط أشقاءهم المسلمين أجواء الصيام فلا يتناولون الطعام ولا يشربون الماء أمام الصائمين، وذلك من تلقاء أنفسهم، وأتذكر كم مرة مر علينا رمضان إبان الامتحانات الجامعية، وكنا نشارك الأشقاء والزملاء المسلمين فى إفطار رمضان، تحول نمط غذائنا فى أيام رمضان إلى نمط أقرب إلى الصائم، فالوجبة الأساسية هى وجبة الإفطار مع غروب شمس اليوم، ثم وجبة السحور. لم تكن هناك مشكلة فى أن يشارك المسلم شقيقه المسيحى الاحتفال وتقديم التهنئة بالأعياد، ولم يكن المسيحى يشعر بأن مشاركته الوجدانية لشقيقه المسلم فى صيام رمضان تنتقص من إيمانه أو تقلل من التزامه. لم يفكر المصرى مسلما أو مسيحيا فى ما وراء التهنئة، فهى الحياة المشتركة التى جعلتهم يقتسمون لقمة العيش. لم يفكر أى منهما فى ديانة شقيقه، فما نعرفه هو أننا كمصريين تحولنا من الديانات التقليدية التى سادت مصر كما العالم أجمع إلى المسيحية، ثم تحول غالبية المصريين إلى الإسلام. مثلت الكنيسة الأرثوذكسية، المسيحية المصرية، وعبر الأزهر عن الإسلام السنى، واتسمت العلاقة بصفة عامة بقدر كبير من الاعتدال وتوافرت مساحة مشتركة اعتبارا من ثورة ١٩١٩ أوجدت أرضية بين المؤسستين، جرى من خلالها تجاوز أحداث تاريخية وتوترات متراكمة، كما أغلقت الطريق أمام المستعمر الإنجليزى الذى أراد النفاذ من خلال التفرقة بين الجانبين عبر السياسة الإنجليزية التقليدية المعروفة باسم «فرِّق تسُد». مع لجوء السادات إلى ورقة الدين بحثا عن شرعية مجروحة وشعبية مفقودة، بدأت الطائفية تعرف طريقها إلى مصر وتحث المصريين على تقديم الدينى على الوطنى، وتباعدت المسافة بين المؤسستين، الأزهر والكنيسة وحل التوتر محل السلام إلى أن دفع السادات حياته ثمنا لهذه اللعبة الكريهة التى كادت تمزق مصر.
جاء مبارك ولم تتوقف سياسات الحشد الطائفى وتباعد أشقاء الوطن كثيرا، كان التباعد نفسيا، وعكس ذاته فى أسماء المصريين الجدد التى باتت تعلن عن الهوية الدينية من الوهلة الأولى، كانت ديانة المصرى فى جيلنا عادة لا تعرف من اسمه الأول، بل ربما تحتاج إلى الجد الثالث أو الرابع، أما مواليد ما بعد منتصف سبعينيات القرن الماضى فالاسم كاشف عن الهوية الدينية. استمر الحال هكذا وكادت مصر تنفجر طائفيا بنهاية ٢٠١٠ إلى أن أطاحت الثورة بنظام مبارك، وقدم المصريون نموذجا رائعا فى التوحد الوطنى وتجاوز الطائفية المريرة، قدم المجتمع المصرى دروسا فى الوطنية عندما بادر شباب مصرى مسلم وشابات أيضا بحمل الشموع والذهاب إلى الكنائس بعد جريمة كنيسة القديسين، رفضا لهذه الجريمة ومشاركة للأقباط فى تحدى الإرهاب. وفى زمن الإخوان كانت المحاولات المستميتة لتذكير المصريين باختلافاتهم الدينية، فى زمن الإخوان جاءت محاولات تقسيم البلاد دينيا وطائفيا، وفى زمن الإخوان باتت الفتنة صناعة نظام، هنا تعالت الأصوات التى تطالب المصريين المسلمين بعدم تهنئة المصريين المسيحيين بأعيادهم الدينية، تم توزيع الأدوار على الطريقة الصهيونية، فالعريان يهنئ ومفتى الجماعة يحرِّم، والتيارات السلفية تحذر من تقديم تهئنة للمسيحيين بأعيادهم الدينية.
وهنا أقول بوضوح شديد إن المصريين المسيحيين يحتفلون بأعيادهم الدينية التى احتفلوا بها منذ قرابة الألفى سنة، احتفلوا بها فى أزمان فرضت عليهم فيها الكثير من القيود، وعدم تهنئة البعض لهم بالأعياد لن تفقدهم شيئا، وأن الاتجاه العام فى مصر هو الحرص الشديد على العيش المشترك، يكفى أن نشير إلى تبادل التهانى بمناسبة أحد الشعانين أو السعف، وهو مناسبة لم تكن محلا لتبادل التهانى بين مسلمى مصر وأقباطها قبل ظهور دعاوى تحريم التهنئة. أخيرا أتمنى من الإعلام المصرى ومن مسيحيى المصريين عدم التوقف أبدا أمام صدور فتاوى تحريم تهنئة المصريين المسيحيين بأعيادهم، فمن يحرم تهنئة المسيحيين بالأعياد هذا شأنه، وهو يعبر عن مكنون قلبه، ولا ينبغى إطلاقا التوقف أمام مثل هذه الدعاوى فمن يُرد تقديم التهنئة بالأعياد فمرحبا به سائرا على طريق مصر والمصريين، ومن لم يُرد فهذا شأنه ونتركه مع نفسه، فعدم تقديم التهنئة بالعيد لن يقلل إطلاقا من الاحتفال به، بل على العكس، فانتشار مثل هذه الدعاوى ترتب ردود فعل عكسية فتدفع بمصريين مسلمين إلى المبالغة فى تقديم التهانى لأشقائم المسيحيين، بل إن إحدى رسائل التهنئة بـ«أحد السعف» جاء فى مقدمتها «بالعند فى مفتى الإخوان.. كل عام وأنتم بخير بمناسة (أحد الشعانين) و(أسبوع الآلام)».