صب الشيطان كأسه العاشر من زجاجة مية النار اللى لسه فاتحها منذ أقل من ساعة.. تجرعه فى أسى ثم رماه على الأرض أمامه فى غضب وملل وزهق.. أشعل جوينت وأخذ ينفث دخانه فى لا مبالاة وهو ينظر من نافذة قلعته المهيبة التى قرر الإنعزال فيها مؤخراً بعد أن فاجأه مستوى الإنحطاط الذى وصلت إليه السفالة على سطح ذلك الكوكب التعس.. فعلى الرغم من تعايشه على مدار كل تلك العصور مع كل ذلك الشر الذى يملأ قلوب البشر إلا أنه لم يتصور ان تصل الأمور إلى ذلك المنحى العبثى من الإبتذال والسفالة والوقاحة والإجرام وقلة الأدب والوضاعة التى وصلت إلى درجة لم يعد قلب الشيطان الرقيق قادراً على تحملها.. حتى أنه بدأ يفكر فى ما لم يفكر فيه من قبل.. وفى ما إذا كان قد أخطأ عندما أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر.. المؤكد أنه لم يكن يعلم وقتها مواهب آدم وعشيرته فى الشر والسفالة.. ربما لو كان يعلم لكان قد سجد – من باب تقدير حرفية الشر وموهبة السفالة على الأقل - وربما كان شكل الحياه على الأرض قد اختلف تماماً حيث لم يكن ليوسوس لآدم بأن يأكل تفاحة الشهوة المحرمة ولم يكن آدم بدوره ليهبط على الأرض ولم نكن نحن لنوجد.. ربما كان الشيطان وآدم عندها سوف يصبحان أصدقاء وربما لم تكن تلك الخلافات السماوية بينهما لتصل إلى ذلك المدى من الجفاء..
سرح الشيطان مع افكاره وخيالاته وهو ينهى لف جوينت جديد ويشعله ويتذكر تلك اللحظة القديمة التى تعد بداية كل ما يحدث الآن.. اللحظة التى إتخذ فيها قراره الحاسم أثناء إجتماعه بالهيئة العليا لمجلس الإخوان الشياطين فى حديقة المقر الرئيسى للجماعة بالجحيم.. «إحنا يا جماعة من أول النهاردة حنستخدم تكنيك جديد يوفر علينا المجهود ويحققلنا هدفنا الرئيسى بشكل حيوى أكتر.. حنجند بنى آدمين يعملوا شغلنا بدالنا».. وعندها انبرى أحد الشياطين الشباب رافعاً يده وهو يتساءل بتعجب.. «و إيه الجديد؟!.. إذا كان هو دا أصلاً أساس شغلنا.. إننا نجند البنى آدمين ونشترى أرواحهم ونخليهم ينفذوا أوامرنا عشان الشر ينتصر على الخير».. نظر له الشيطان موافقاً على ما يقوله قبل أن يواصل حديثه بخبث.. «بالظبط كده.. والمفروض إن عدونا الرئيسى فى اللعبة دى همه البشر اللى الخير فى قلوبهم اقوى من الشر.. وبالتحديد رجال الدين اللى المفروض إنهم أقرب الناس لربنا ولقيم الخير والحق والجمال.. إحنا بقى حنضرب كرسى فى الكلوب وحنجند رجال الدين نفسهم».. وهنا انبرى شيطان شاب آخر بالسؤال.. «إزاى حضرتك.. عايزنا نشترى أرواح ناس وهبت روحها لربنا وللخير إزاى»؟!.. أجابه الشيطان.. «هى دى العبقرية اللى فى الفكرة.. أكيد إننا مش حنقدر نجند رجال الدين اللى بجد.. اللى الخير مالى قلوبهم بجد.. بس الأكيد إن رجال الدين زيهم زى باقى البنى آدمين.. فيهم النقى فعلاً وفيهم النقى تمثيل.. فيهم اللى لو يصيتوا فى قلبهم مش حتلاقوا غير ربنا بجد وفيهم اللى لو بصيتوا فى قلبهم مش حتلاقوا غير السواد والحقد والشهوات والمطامع.. إحنا بقى حنشتغل على النوع التانى.. وحنحوِّل الشر المستخبى فى قلوبهم لشر واضح ومعلن قدام كل الناس.. حنخليهم يتصرفوا كسفراء رسميين لينا على الأرض.. حنخليهم يتباهوا بسفالتهم ووضاعتهم على مرأى ومسمع من الجميع.. وفى إطار نفس الخطة دى حنجند شلحلجية مالهومش علاقة بالدين اساساً وحنحولهم على إيد رجال الدين الممثلين اللى اشترينا أرواحهم لرجال دين همه كمان.. ومع الوقت الناس حتتلخبط ومش حتقدر تفرق بين رجل الدين اللى بجد ورجل الدين اللى تبعنا.. والأخلاق تخش فى اللا أخلاق والصح يتلخبط على الغلط وماحدش ساعتها حيقدر يفرق بين الخير والشر.. لأن الشر حيبقى مصدره الرئيسى ساعتها همه رجال الدين النصابين اللى جندناهم.. ودا حيؤدى لفتنة كبيرة على الكوكب بعد فقدان رجل الدين لأهم صفاته.. إنه يكون بنى آدم الخير مالى قلبه»!
سارت الخطة المرسومة بشكل ناجح فاق كل توقعات الشيطان نفسه.. سارت بشكل ناجح إلى درجة جلوس الشيطان الآن حزيناً ومصدوماً بعد أن سحب رجال الدين النصابين سجادة الشر من تحت أقدامه.. ليصبحوا هم شياطين ذلك الزمن الحقيقيين.. وليصبح الشيطان عاطلاً عن العمل ومتفرغاً لكتابة مذكراته!