قبيل اندلاع مظاهرات 25 يناير 2011 بشهور، بل بسنوات، كانت جميع التوقعات تشير إلى أن مصر فى انتظار انفجار اجتماعى كبير يتخذ أبعاداً سياسية تطيح بنظام حسنى مبارك، القائم حينذاك، وكانت هذه التوقعات قائمة على سوء توزيع الثروة والناتج القومى فى البلاد بين شعب محكوم يتضَوّر فقراً وأقلية حاكمة تتفجر ثراءً، وما أسفر عنه هذا الوضع من مآس اجتماعية تطيح باستقرار أى مجتمع فى الدنيا. إلا أن مقدمات ثورة يناير، والتى قادتها الفئات الشابة من الطبقات الاجتماعية الوسطى والعليا، والتى جعلت المطالب السياسية فى مقدمة أهداف الثورة، كانت هى التى قادت مسار الثورة حتى اللحظة التى نعيشها اليوم، فعلى الرغم من أن البعد الاجتماعى للثورة ظهر بوضوح، منذ يوم 26 يناير، بانضمام قطاعات من الطبقات الشعبية المحرومة إلى المظاهرات، وهو ما حسم مسارها لتكون ثورة كاملة، وعلى الرغم من أن هذا جعل الخبز فى مقدمة شعارها الثلاثى، وأتت بعده الحرية، ثم العدالة الاجتماعية لتكمل الجوهر الاجتماعى – الاقتصادى للمطالب، فإن مسار الثورة كله بعد رحيل مبارك عن الحكم تأثر بمقدمات الثورة، التى سارت بصورة شبه كاملة فى طريق تحقيق المطالب السياسية وليس الاجتماعية – الاقتصادية.
هذا المسار السياسى الذى ركز بصورة واضحة، وربما وحيدة، على تحقيق المطلب الثانى للثورة وهو الحرية والسعى لتنظيمها دستورياً وقانونياً وإجرائياً، هو الذى استغرق كل القوى والجماعات والأحزاب التى شاركت فى الثورة منذ بدايتها أو انضمت إليها بعد ذلك. وهذا المسار كان هو أيضاً الذى ميز فى مختلف مراحله بين القوى والأحزاب والجماعات فى مواقفها من تفاصيل الانتقال السياسى والشروط الدستورية والقانونية والإجرائية لتطبيق الحرية كهدف للثورة فى الواقع السياسى والاجتماعى المصرى. ووسط هذا الزخم السياسى بامتياز غابت المعايير الاجتماعية والاقتصادية عن ساحة الصراع السياسى، ولم يعد ممكناً أو على الأقل صعباً، التمييز بين القوى السياسية والحزبية من زاوية رؤاها ومواقفها من قضايا العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة والناتج القومى بين فئات المجتمع وطبقاته.
غابت القضية الاجتماعية طوال فترة العامين وربع العام التى سارتها الثورة حتى اليوم، وهو ما ترافق مع تدهور حاد فى الأوضاع الاقتصادية للبلاد ككل، وتدهور أكثر حدة فى أحوال الفئات والطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً. فى نفس هذا الوقت كله ظل الصراع السياسى مُنْصَبّاً ودائراً حول قضايا التحول السياسى وتنظيم الحرية المكتسبة، دون أن يمتد إلى قضايا العدل الاجتماعى، وتوزيع الثروة، وإيجاد الحاجات الأساسية للمواطن المصرى، الأمر الذى نتج عنه أمران. الأول هو تزايد فجوة الثقة بين عموم المصريين، خاصة فئاتهم وطبقاتهم الفقيرة وبين ممارسى العمل السياسى المحض من مختلف القوى السياسية والحزبية، وهى الفجوة التى ازداد اتساعها، بعد فشل حكم الإخوان المسلمين فى تلبية الحاجات والمطالب الاجتماعية والاقتصادية لغالبية المصريين الذين كانت توقعاتهم عكس هذا تماماً. وكان الأمر الثانى هو التزايد الواضح غير المسبوق فى الاحتجاجات والمظاهرات، ذات الطابع الاجتماعى والفئوى والاقتصادى والتى اكتسحت كل أرجاء البلاد، واستفاد أصحابها فيها من القدر الذى تحقق من الحرية السياسية والخبرة التى اكتسبوها من شهور الثورة الطويلة فى الاحتجاج والتظاهر.
هذه المقدمات وهذا المسار السياسى الذى اتخذته ثورة يناير هو الذى أوصل البلاد إلى الوضع الحالى الذى تعيشه اليوم، وهذا المسار كان هو نفسه الذى أدخل البلاد أيضاً طوال هذه السنوات، خصوصاً بعد وصول الرئيس محمد مرسى للحكم، بعد هيمنة التيارات الإسلامية على مجلسى البرلمان، فى قضايا خلافية، بل وصراعية اتخذت أبعاداً أكبر بكثير مما تستحق. فى هذا السياق ظهرت الخلافات ذات الطابع الطائفى بين المسلمين والمسيحيين، والتى تعددت حوادثها وأحداثها لتشغل المجتمع وتستهلك جزءاً كبيراً من طاقته وطاقة الدولة، وتستنزف دماءً وعلاقات مجتمعية بين المصريين صمدت طويلاً أمام تطورات الزمن. ومن ناحية أخرى، ازدادت توجهات تصنيف المسلمين من المصريين إلى صالحين وغير صالحين، بل وأحياناً حقيقيين وغير حقيقيين، على يد بعض قوى وأفراد التيارات الإسلامية، مما عمّق من فجوة الخلاف الدينى فى المجتمع بين المسلمين أنفسهم. ومن ناحية ثالثة، تزايدت حدة التمييز ضد المرأة المصرية، بل والتحرش بها والاعتداء عليها، فى ظل وجود تفسيرات ورؤى دينية، ذات طابع متشدد، وممارسات مجتمعية استندت عليها فى مختلف مناطق البلاد وقطاعاتها الاجتماعية، مما أضاف بعداً جديداً للانقسام المجتمعى كان الكثيرون يتصورون أن البلاد ستتجاوزه، فى ظل ثورتها العظيمة.
ولم يكن هذا المسار السياسى بامتياز بعيداً عن إثارة عديد من القضايا، ذات الطابع الفئوى والمهنى، التى باتت تشغل المساحة الأكبر والأبرز فى الصراع السياسى الدائر فى البلاد، ولعل آخرها قضية القضاء ومحاولة الاعتداء التشريعى على قضاة مصر، الدائرة حالياً فى أروقة مجلس الشورى. وربما كانت أيضاً محاولات التضييق على الإعلام بوسائله المختلفة وجهاً آخر للقضايا، ذات الطابع السياسى والفئوى، التى ازداد تفجيرها فى الفترة الأخيرة، فى ظل الغياب شبه التام لأى توجهات واضحة من القوى والأحزاب السياسية فيما يخص القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التى راح ثقلها يزيد على عموم المصريين، وتَئِنّ منه ظهورهم.
من هنا فإن التناقض الحاد الموجود الآن فى مصر بين مظالم اجتماعية يزداد ثقلها وتدهور اقتصادى تزداد حدته، وبين اهتمامات مستمرة بالشؤون السياسية، دون أى تبلور واضح للمسارات والرؤى الاجتماعية والاقتصادية المتمايزة، لحل هذه الأوضاع المتفاقمة. ومن هنا أيضاً فإن عزوف عموم المصريين، وخصوصاً الأكثر معاناة منهم، عن العمل السياسى المحض والقائمين عليه من قوى وأحزاب، يتواصل، وهو مرشح للتواصل أكثر فى الأيام القادمة، وقد يصل إلى ذروته فى انتخابات مجلس النواب القادمة، بما يمكن أن يجعل من نسبة المشاركة فيها هى الأقل، منذ قيام الثورة، ربما باستثناء انتخابات مجلس الشورى الحالى، وذلك نظراً لأمرين: الأول هو عدم وجود أى صدى لمعاناتهم الاجتماعية والاقتصادية فى برامج وتصورات القوى السياسية والحزبية، المتصارعة فى المعارك السياسية، والثانى لأنهم جربوا كل أنواع الانتخابات والصناديق، ولم يجنوا من ورائها سوى مزيد من المعاناة الاجتماعية القاسية، التى يزداد ثقلها عليهم يوماً بعد آخر.
إذاً فمن الواضح أن إعادة فرز الساحة السياسية المصرية القائمة اليوم على أسس انحيازات قواها وأحزابها الاجتماعية والاقتصادية هى الحل الوحيد، لإعادة تقديمها بصورته الحقيقية للرأى العام المصرى، وأيضاً لإعادة الثورة المصرية إلى مسار أهدافها الثلاثة الطبيعى، والذى يأتى العيش فى مقدمته، والحرية تالية له، ثم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لكى تتوج المطالب والطموحات الحقيقية للمصريين البسطاء، الذين لولاهم لما نجحت هذه الثورة، وبدونهم وبدون مطالبهم الحقيقية لا يمكن لها أن تستمر، وتتحول لنظام سياسى مستقر يعكس حالة المجتمع كله، وليس مجرد مطالب وآمال القوى السياسية والحزبية.