يشكو الجميع الآن من الإرهاب على الرغم من أن الذين يحاربونه يفعلون، فى الحقيقة، كل ما بوسعهم للقضاء عليه. والمثير أن ضحايا الإرهاب ليسوا إطلاقا من بين أولئك الذين يحشدون الجيوش ويرسلون بالبشر وبشحنات الأسلحة والأموال إلى ساحات المعارك. لا يموت إلا المواطن البسيط الذى يدفع الضرائب من أجل توفير الخدمات الأساسية، ومن ضمنها أمنه وأمن أسرته، سواء كان ذلك فى أفغانستان أو باكستان أو العراق وليبيا والولايات المتحدة وسورية والصومال ومالى.....
لم يتمكن لا مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة من وضع تعريفات محددة للإرهاب، ومن ثم لم ينجح أى منهما فى وضع بنود قانونية ولائحة واضحة وشفافة لعقوبات على جرائم الإرهاب. كل ما فى الأمر أن هذين «المحفلين» الدوليين يلوكان كلمة «الإرهاب» بشكل انتقائى يتعارض مع المنطق قبل أن يتعارض مع حياة الضحايا ودمائهم وكل المقدسات الإنسانية.
كانت تجربة أفغانستان والمغامرات والمقامرات والمجازفات التى أحاطت بها، والتى لا تزال ماثلة أمامنا إلى وقتنا هذا، درسا للبشرية. ولكن يبدو أن هناك من يريد للذاكرة الإنسانية أن تظل عند خط الصفر أو ما تحته. والمدهش أنه فى كل مرة يلمح فيها الناس مقدمات التجربة الأفغانية ويشرعون بالتحذير والانتقادات والمعارضة، نجد أن هناك من يصمم على المضى قدما تحت أسباب وحجج ومسوغات كثيرة حتى وإن كانت متشابهة مع مثيلاتها فى التجربة الأفغانية. فجاءت تجربة العراق والصومال وليبيا واليمن وسورية، وما خفى كان أعظم!
التفجيرات والتفخيخات فى أفغانستان والعراق وليبيا جارية على قدم وساق. هذه الدول تحديدا كانت مختبرا لتجارب أمريكية-أورو أطلسية لتغيير الأنظمة السياسية والحكومات. ونجحت واشنطن وحلفاؤها فى تغيير الأنظمة بالطرق المعهودة وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح، وأتت بأنظمة أقل ما يمكن أن نقوله عنها إنها نشأت وتربت وترعرعت عندها. وخلال عدة سنوات تم تغيير هذه الأنظمة فى إطار محدد وواضح لا يخرج عن الرغبة الأمريكية-الأورو أطلسية. ومع تغير اتجاه الرياح السياسية والمصالح الاقتصادية بدأت الدائرة تدور على نفس الأنظمة القديمة-الحليفة والربيبة. وها هو حامد كرزاى مثال واضح للمقامرات السياسية، بينما التفجيرات متواصلة. أما نورى المالكى فهو فى وضع لا يحسد عليه، سواء أمام الشعب العراقى أو مع التنظيمات الإرهابية والقتل والتدمير المستمرين. وتكاد الحكومة الثانية أو الرابعة فى ليبيا تسقط فى نفس الفخ، وستسقط حتما، لأن «الوصفة» هى نفس الوصفة، وما تحدث عنه الجميع من تفجيرات واغتيالات وإراقة دماء يتحقق يوميا.
الحديث لا يدور هنا حول إدانة انتفاضات الشعوب وثوراتها، بل يدور حول كيفية استغلال هبات الشعوب وانتفاضاتها وتحويلها إلى مجرى آخر مختلف تماما ومضاد لمصالحها وأهداف ثوراتها. الفكرة هنا أن حياة الشعوب ومستقبلها لا يهم لا تجار الحرب والسلاح والأموال، ولا يهم الأنظمة التى يأتى بها هؤلاء التجار. ربما كانت الخريطة معقدة نسبيا إبان حرب أفغانستان. ولكنها بدأت تتضح تدريجيا منذ احتلال العراق. وباتت واضحة ومفهومة مع ما يجرى فى تونس ومصر وسورية واليمن ومالى والصومال وغيرها.
من المؤكد أن التحذيرات والانتقادات لا تجدى فى السياسة الكبرى، ولا حتى فى الصغرى المحلية. السياسة هى السياسة، خصوصا إذا كانت القوى الكبرى تتلفح بالديمقراطية وحقوق الإنسان بشكل انتقائى ممنهج وفى إطار القضاء على الشعوب وإخضاعها ومحو ذاكرتها. وهذا تحديدا أحد أهم أسباب فشل مجلس الأمن والأمم المتحدة فى صياغة مفهوم واضح وشفاف للإرهاب.
والآن تتشكل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفقا للنسق الأفغانى مع الاحتفاظ ببعض الخصائص المتعلقة بكل دولة أو منطقة على حدة، لكن السيناريو يسير قدما ومن الصعب تغييره. والأسباب أصبحت واضحة تماما، وعلى رأسها الإرهاب والإضرار بمصالح الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائهم، وقتل مواطنيهم وتفجير المنشآت التابعة لهم! بل ويمكن أن نلاحظ بالعين المجردة والتجربة الحية وجود كل الأدوات اللازمة مثل وجود القوى اليمينية المتطرفة على رأس السلطة، واستبدال بالأنظمة القديمة الحليفة لواشنطن أخرى «ليبرالية!»، وتمترس القوى الجهادية والإرهابية بعد عودتها إلى وطنها الأم ليس أبدا دون علم الأجهزة الأمنية للولايات المتحدة ومحورها الأورو أطلسى، ومخازن الأسلحة والمخدرات والعملات المحلية والأجنبية. ولا يمكن أن نتجاهل تمهيد التربة الصالحة للنسق الأفغانى من تكفير واعتداء على الحريات الخاصة والعامة وتدمير الثروات القومية وضرب المنظومات الراسخة مثل القضاء والقانون والقوات المسلحة والأمن. على هذه الخلفية السريعة، لا يمكن مواجهة هذا السيناريو وطابوره الخامس فى الداخل إلا بالمشروع الوطنى الديمقراطى كمقدمة لمشاريع أرقى تتعلق بمنظومة العلاقات الاجتماعية بمعناها العلمى والواسع. ولا شك أن المشروع الوطنى أمر يخص الشعوب وقواها السياسية الوطنية وليس له علاقة من بعيد أو قريب بالطابور الخامس والقوى التى تحركه. فأحد أسباب كل ما يجرى بالمنطقة هو منع وصول القوى الوطنية إلى السلطة.