يظل «التعديل الأول» فى الدستور الأمريكى المعمول به راهناً، قادراً على إلهام أى أمة ترغب فى العيش بكرامة وحرية بمنأى عن الاستبداد والاستعلاء والشوفينية، وهو أمر لا تنال منه مساومة واشنطن على القيم التى ينطوى عليها هذا التعديل فى علاقاتها مع الأمم الأخرى، طالما كانت تلك العلاقات تحقق مصالحها الاستراتيجية.
يحظر «التعديل الأول» على الكونجرس الأمريكى «سن أى قانون يؤدّى إلى دعم ممارسة دين معين، أو سن أى قانون يؤدّى إلى منع ممارسة دين معين، أو إصدار أى تشريع يؤدّى إلى تعطيل حرية الكلام أو الصحافة».
يأتى هذا التعديل فى صدارة تعديلات عشرة تم إقرارها والعمل بها فى الولايات المتحدة منذ عام 1791 حتى يومنا هذا، بعدما شعر الأمريكيون الأوائل بأن حرياتهم الدينية وحقهم فى الكلام يخضع لضغوط ومساومات ومحاولات للتقييد، وبعدما أيقنوا أن الحرية هى الضمانة الأولى لرشد الحكومة، والدرع الأولى لمواجهة نزعات الفاشية والطغيان.
تحدد تلك التعديلات العشرة الحقوق والامتيازات والحريات التى لا يجوز للحكومة الفيدرالية أن تمنعها أو تحد منها. وتعتبر أن «ثمة حقائق يجب أن تكون بدهية، على رأسها أن كل البشر خُلقوا متساوين، وأن خالقهم وهبهم حقوقاً معينة غير قابلة للتصرّف، من بينها الحق فى الحياة، والحرية، والاعتقاد، ونشدان السعادة. ولضمان هذه الحقوق تمّ إنشاء الحكومات بين الناس، لتستمد سلطاتها من موافقة المحكومين ورضاهم».
يقدم التعديل الأول للدستور الأمريكى وصفة مُجربة لأى أمة تريد أن تبنى دولة على أسس من العدالة والمساواة والحرية، ويمثل الالتزام بتلك الوصفة وتفعيلها قيداً صعباً وعصياً على الاختراق من جانب هؤلاء الذين يحاولون قمع الشعوب وتكميم الأفواه، أو إغراق الأمم فى التناحر الطائفى وتكريس الاستعلاء الدينى والشوفينية من أجل إحكام السيطرة.
لا ينطوى الأداء العالمى الأمريكى على الكثير من الإشراقات التى يمكن الاقتداء بها فى مجال دعم الحرية والديمقراطية دعماً حقيقياً وفعالاً، كما أن «القيم الأمريكية» التى تم الترويج لها كثيراً، لم تحظّ بالصدقية الملائمة لدى شعوب العالم المختلفة، خاصة شعوب الدول المتخلفة أو الأقل نمواً، لكن القيم التى ينطوى عليها «التعديل الأول» خصوصاً تعد الأصلح للاقتداء بها لضمان العيش الكريم والإنصاف للمواطنين الطامحين إلى الحرية.
لقد قامت فى مصر «ثورة» بدأت عظيمة تحت شعار «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية»، لكن الأوضاع بعد نحو 27 شهراً من تلك «الثورة» تتجه إلى الأسوأ فى المجالات الأربعة التى طالها الشعار.
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والتردى السياسى القياسى، والغموض وفقدان الرؤية، ليست أسوأ ما يشهده المصريون الآن، فثمة عمل منهجى يستهدفهم وينال بقسوة من حريتهم وكرامتهم وحقهم فى العيش بمساواة وعدالة.
لقد سنّت السلطة التشريعية، المشكوك فى شرعيتها، قانوناً يتيح استخدام الشعارات الدينية فى التنافس الانتخابى، وهى مسألة تكرس تمييزاً دينياً بغيضاً، وتهبط بالمعانى السامية للدين، كما عرفها المصريون واحترموها على مرّ تاريخهم، إلى أوضاع السياسة الملتبسة، وتكرس الانقسام والاستقطاب وتخلق الكراهية والاستعلاء على أسس تتدثر بالدين ولا تتوخى قيمه النبيلة.
تقنن السلطة الحاكمة الاحتراب الدينى إذن، وتجعل الطائفية عنواناً للممارسة السياسية. ويستهدف أعضاء فى الجسم الرئاسى أتباع دين معين من أبناء الوطن، بتحميلهم المسؤولية عن أعمال عنف اتخذت طابعاً طائفياً، قبل ظهور نتائج التحقيقات.
يتفاعل الجدل السياسى فى مستويات عدة عن جدوى الانفتاح فى العلاقات مع إيران، خصوصاً على المستوى السياحى، فتخرج أصوات من حلفاء النظام منددة وغاضبة بدعاوى تتصل بما تعتقد أنه «الطهر المذهبى السنى»، الذى يمكن أن تنال منه «السياحة الشيعية».
يشعر النظام وأنصاره بأنه بات محشوراً فى زاوية الفشل السياسى والإخفاق الاقتصادى وتردى السمعة، فلا يجد سوى اللعب على النعرات الدينية والمذهبية، لتحسين مركزه فى الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، التى يعرف أن أداءه المزرى لا يمكّنه من الفوز بها.
وفى الوقت الذى يبلور فيه النظام خطابه الطائفى البغيض لأهداف براجماتية رخيصة، يواصل شن حملاته المتتالية على حرية الصحافة والإعلام والنقد والكلام، تحت دعاوى زائفة مثل «هيبة الرئاسة»، و«عجلة الإنتاج»، و«القيم الدينية والاجتماعية».
بعد «ثورة» بدأت عظيمة، فقد فيها المصريون أكثر من ألف شهيد، وقدموا تضحيات كبيرة، يجب ألّا يتنازلوا عن حقوقهم فى العيش فى دولة تحترم عقائدهم وحرياتهم، إذا أرادوا أن يعيشوا بكرامة مثل غيرهم من أبناء الأمم الحرة.