كانت التحقيقات بالنيابة قد وصلت إلى مربع معقد في قضية مقتل الضابط بالجيش المصري، آنذاك عبد القادر طه، وبدا أن هناك ثغرة ما بحاجة إلى الاستكمال، وأن هناك شهادة يجب أن تستوفى كي يكتمل مشهد القضية.
وعند هذه النقطة المتشابكة، وفي أول أكتوبر عام 1952، صدر العدد الثاني من مجلة التحرير، ناشرا ضمن ما نشر قصة «5 ساعات» للطبيب والكاتب الشاب يوسف إدريس، التي توثق للساعات الخمس التي قضاها عبد القادر طه ينازع الموت، بينما يحاول إدريس إسعافه وإنقاذه.
جاءت التفاصيل والسرد القصصي في «5 ساعات» ليوضح أنها ليست قصة قصيرة فحسب، بل هي أقرب لشهادة موثقة حول ما تفوه به «طه» على فراش الموت، وحول الاتهامات التي وجهها للملك فاروق ولآخرين بمحاولة قتله.. بالأسماء.
كان لـ«طه» نشاط وطني ضمن مغامرات كثير من ضباط الجيش المصري في ذلك الحين البعيد ضد الملك وضد فساد كبار قادة الجيش، الأمر الذي وضع طه في مواجهة مباشرة مع القصر.
وفور نشر القصة، استدعت النيابة العامة الطبيب يوسف إدريس وحققت معه، ودققت ووثقت ما سمعه بالضبط من عبد القادر طه الذي أردته 4 رصاصات غادرة، وأزهقت روحه في 5 ساعات كاملة، على أحد أسرة مستشفى قصر العيني.
ثم انتهت تحقيقات النيابة، وفي 10 أبريل 1954 قضي بالحكم على اثنين من المتهمين باغتيال عبد القادر طه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
***
تظل هذه القضية دلالة قاطعة على أنه إذا ما كانت هناك إرادة لتقصي العدالة، فإنها تنفذ إلى جوهر الوقائع، وتتبع أطرافها ومساراتها ومآلاتها.
فها هي قصة قصيرة قد شكلت حجر الزاوية بتفاصليها الواقعية، في قضية قتل عمدي، ذات خلفية سياسية، بينما لم تنجح مئات الفيديوهات المصورة واللقطات المتلفزة وآلاف الصور وعشرات الآلاف من الشهادات الحية في دفع العدالة قدما للتحقيق في قضايا «قتل الشباب» على مدار ثورة يناير.
فمنذ دوران عجلة القتل والاغتيال في أحداث الثورة، وحتى آخر الاشتباكات الدامية عبر ما يزيد على عامين، لم يبد أن هناك إرادة جدية لإنفاذ العدالة، وبدء سلسلة من التحقيقات الموسعة التي تتولاها لجان محترفة، موثوقة النزاهة والحياد، لتصارح الشعب بمن قتل زهرة شبابه، ولتبدأ وتيرة محاكمات جنائية موسعة، كاملة الضمانات، لمحاسبة القتلة.
وبدا مجرد الارتكان إلى مسميات مثل «الطرف الثالث» و«الدولة العميقة» و«أجنحة الإخوان السرية» و«البلطجية»، تفسيرا كافيا لتبرير القتل، والتماهي والتعايش مع حقيقة أنه يحدث!
منذ الثامن والعشرين من يناير وحتى اليوم، ونحن نسمع عن اتهامات لحماس والإخوان وحزب الله وآخرين بالضلوع في قتل الثوار، ومنذ ذلك التاريخ يبث المصورون والناشطون صورا لضباط الداخلية، وهم يطلقون الرصاص من فوق البنايات ووسط ميادين الاشتباك، منذ ذلك الحين، وهناك عشرات الدلائل في كل الاتجاهات، كلها بحاجة لتحقيق جاد، يثبت وينفي، يتقصى ويصل.. ثم يقول لنا من قتل إخواننا وأبناءنا؟
نحن إذا أمام سابقة فريدة من التعطيل العمدي للعدالة على مدار سنتين، رغم توافر الأدلة ورغم اتضاح الخيوط في تشابكها وترابطها.. بل جرت بعض الجرائم، بينما تبثها الفضائيات على الهواء مباشرة!
***
ربما ركن المجلس العسكري إلى عدم استنهاض واستنفار أجهزة الدولة لتبني تحقيقات جدية في قضايا قتل المتظاهرين، لأنه لم يرد أن يغامر بتحمل تكلفة مواجهة الداخلية، وعشرات من ضباطها وأفرادها، الذين قد يطال حبل المشنقة رؤوسهم، وقد تحصد السجون أعمارهم فيها، إذا ما ثبتت الإدانة ضدهم.
ونحن هنا أمام ترجيح سياسي مال إلى تلصيم الداخلية، ومداوة جرح «هيئة وشخصية الدولة»، التي بعثرها وامتهنها الشباب الثائر، وبدا أن خياره له تعقيدات سياسية، ورؤية بعينها تذهب إلى أن يتغاضى أهالي الشهداء وعموم الشعب عن هذه الجريمة المنهجية التي حصدت مئات الأرواح، لقاء أن يعاد ترميم (وليس بناء) الدولة.
وربما، كانت المفاوضات والضغوط مع الإخوان وحماس رهينة حسابات معينة افترض المجلس العسكري أنه بحاجة إليها لكبح جماح الشارع الفوار، أو هكذا ذهبت التقديرات، مشفوعة بالتسريبات!
ثم ترافق مع هذا التصور الذي اختاره «العسكري» طواعية، رؤية قطاع من السلفيين ذهبت إلى إجراء «ترضية» بين بعض أهالي الشهداء والمصابين مع بعض الضباط المتهمين عبر إسكات الأهالي بقبول «الدية».
وفجأة قفزت الآيات والوقائع والأحاديث ليدعم بها هؤلاء المشايخ صفقة تثمين الأرواح بعشرات الآلاف من الجنيهات، يدسونها في جيب كل أب مكلوم، ليصمت إلى الأبد.
وبدا أن الرؤية السنية التاريخية القائلة، ضمنا، بأفضلية تسكين الأوضاع وتسويتها خلال وبعد الفتن والثورات، هي المعزوفة الدينية التي وجد فيها المجلس العسكري ضالته المنشودة، في إطار تداركه الدولة التي وقعت إداريا بين يديه، بينما لم يكن يملك تصورا ولا موقفا من إدارتها.
وتعانقت القناعة الفقهية للجناح السلفي المتصالح مع السلطة، مع الرؤية السياسية للمجلس العسكري، مع بعض قناعات عجائز الدولة وثعالب السياسة، في التطييب والمداواة بالزمن والنسيان، وطي الصفحة الأليمة فكان أن تغاضى العسكريَ وتمادى.
***
في القاهرة والإسكندرية، استمعت لشهادات عشرات المصابين في الثورة، كلهم كانوا يحكون عن وقائع متطابقة، يتحقق فيها «النمط».. وفقا للاصطلاح المستخدم في تحقيقات تقصي الحقائق في الجرائم الجماعية المماثلة.
أو ما يقصد به هنا تكرار عمليات الاستهداف الشرطي للمواطنين بنفس الطريقة العمدية مع وجود بدائل سلمية للتعامل، أو مع عدم الاحتياج لضرورة العنف بالأساس ضد متظاهرين سلميين.
لدرجة أن أحد المصابين، وهو شاب في منتصف العشرينيات يعمل مهندس ديكور، قال لي: لقد وجه ضابط شرطة رصاصته إلى عيني هذه، وكان يشير إلى ضمادة تغطيها، أو بالأحرى تغطي المحجر الفارغ!، بينما عيوننا في وجه بعضنا البعض، وبعد نظرة طويلة سددها كل منا إلى الآخر!
وعلى هامش هذا نشط بعض المحامين الإخوان في توثيق حالات مصابي الثورة، في الأشهر القليلة، التي تلت يناير 2011، وقد قابلت منهم محاميا إخوانيا سكندريا يدعى الأستاذ خلف بيومي، الذي باغتني ذات مرة بقوله إنه ذهب لمتابعة إحدى القضايا المرفوعة من أهل شهيد ضد ضابط شرطة، ففوجئ بشيخ سلفي تدخل وكتب ديباجة ما ترجع للقرون الهجرية الأولى تنص على التصالح بين الضابط والعائلة لقاء ترضية مالية معقولة!
سألت الأستاذ خلف حينها عن هذا المسلك السلفي، فقال لي إنه حاول-مسبقا- التطوع في قضية سيد بلال، وحاول التواصل مع القيادي السلفي السكندري ياسر برهامي، إلا أن الأخير لم يرد على المهاتفات أو الرسائل.. بما يرجح أن برهامي مال إلى عدم مواجهة دولة مبارك وهيلمانها (نهاية 2010 هذه الواقعة)، وربما توصل إلى قناعة فقهية حول هذا تدور في فلك الأفكار السلفية التقليدية.
وبدا لي-هنا- أن السلفيين عموما أميل لتفادي الصدام- بكل أشكاله- مع أجهزة الدولة، لا عن خوف بمقدار ما هو إيمان عميق بضرورة وجودها، وضرورة الحفاظ على السلطان شخصا، وأمن البلاد حالة!
***
مال مرشد الإخوان هامسا لمرشح الجماعة محمد مرسي في الفيديو الشهير «القصاص»..«القصاص».. مذكرا إياه بأحد البنود التي يتعهد بها الإخوان إذا ما وصل مرشحهم لكرسي الحكم بتنفيذها.
وبدت حقيقة الثورة الفاجعة «ضرورة القصاص»، بندا ترويجيا دعائيا يحتاج المرشح للتأكيد عليه في خطاب جماهيري عام، بل يحتاج إلى من يذكره به، لأنه قد نسيه ضمن حديثه اللاهث عن وعود قيل إنها «النهضة» أو مشروعها.
ثم كان أن وصل الإخوان للسلطة وقد آلت إليهم أجهزة الدولة المفككة، وإرث مبارك الهش، فلم يبد أن قرارهم ورؤيتهم بعيدة عن رؤية المجلس العسكري «لصم ما تستطيع تلصيمه»..«ماشهم وهادنهم»..وبدت التخريجة السلفية الفقهية، أقرب لعقيدة اجتماعية يمكن للإخوان اعتناقها.. إذ إن الوقت الحالي ليس «وقت الفرقة بين أبناء الشعب» ولا ملاحقة الجهاز الشرطي، ونشطت صفحات الإخوان في الدفاع عن ضباط الأمن المركزي وجنوده!
في حديث «المقلاع» الذي أثار جدلا طويلا، وسخرية كبيرة، عادت الحقيقة المؤلمة لتظهر وجهها مرة أخرى: نحن لم نحقق في أحداث الثورة، ولم نقتص ممن قتل أبناءنا.
في حديث «المقلاع» دليل على أننا بحاجة إلى وكيل النيابة الذي استدعى القاص الشاب يوسف إدريس، ليسمع شهادته في مقتل عبد القادر طه.. وأننا بحاجة لإرادة عدالة تستدعي أعتى الرؤوس- أما وقد ساوت الثورة بين الرؤوس جميعا- لتخضع أمام العدالة، وليعرف الشعب الحقيقة الغائبة.
في تسريبات مكالمة «المقلاع» بين قادة حماس وقادة الإخوان دليل قاطع على أننا إذا لم نعرف الحقيقة، فإن الاتهامات، صادقها وباطلها، ستطال الجميع.. وأول شررها سيطال الرجل ثقيل السمع، الذي همس أحدهم بأذنه مذكرا ومكررا «القصاص..القصاص».