قبل أن تنتهى الرحلة مع مهرجان البيئة وقبل إعلان جوائز الختام ببضع ساعات يتبقى فى الذاكرة عدد من اللمحات أجد نفسى حريصا على توثيقها على الورق. المؤكد أن هناك عالما آخر موازيا يسعى لحماية البيئة ويقاوم عالم القبح والشر الذى يغتال البيئة، مثلا هناك جمعية أنشئت قبل عشر سنوات باسم «فكر مرتين» الغرض منها هو حماية الحيوانات المعرضة للانقراض وتذكير الناس بأهمية الحفاظ عليها من هجمات الزمن، تأملت تعبير «فكر مرتين» ووجدت أننا فى حياتنا لو فكرنا مرتين لتجنبنا أشياء عديدة اندفعنا إليها، لأننا فكرنا مرة أو ربما فى الحقيقة مارسناها فقط بحكم العادة.
كثيرا ما يشعر الإنسان أن تراجعه عن موقف اعتراف علنى بالخطأ، ولكن هذه هى أهم قيمة علينا أن نحرص عليها. عقد فى المهرجان ندوة قبل النهاية بساعات مع الكاتب الروائى والطبيب النفسى محمد المخزنجى واكتشفت أنه لم يحصل حتى الآن على جائزة الدولة التقديرية. مزج د.المخزنجى بين الطبيعة برؤية أدبية وعلم النفس والتاريخ المصرى القديم، ولديه تشبيه شديد البلاغة نرى فيه حالنا، حيث إن لدينا ثلاثة اختيارات، إما أن نكون مثل الورق الشفاف الذى ينقل ويقلد ما سبق حرفيا، وهو لا يعبر عن نفسه، ولكن عن آخرين ليصبح صدى لهم، وإما أن نجد أنفسنا ورقة كلينكس مصيرها سلة المهملات والاختيار الصعب هو أن نصبح ورقة لوتس أحد معالم مصر الفرعونية، فهى تحمى نفسها من التلوث ولا تكون إلا نفسها ونحن أولى بالطبع بورقة اللوتس.
ومن محاضرة المخزنجى إلى فيلم يابانى «أرض لا أحد» يعود الفيلم ليمسك بمن تبقى فى إحدى القرى اليابانية بعد إلقاء القنبلة الذرية التى راح ضحيتها الآلاف فى نهاية الحرب العالمية الثانية على هيروشيما وناجازاكى، من كانوا أطفالا وقتها اقتربوا الآن من الثمانين، هؤلاء يطمعون لبلوغ المئة ولديهم الذاكرة نابضة بالحياة، وكلما كبر الإنسان فى العمر كانت الذاكرة التى تحوى الأحداث البعيدة هى الأقوى، كما أن الطبيعة قادرة دائما على أن تستعيد تلك اللحظات التى لم تمت، حتى المقابر تبدو وكأنها تؤكد حضورهم نستشعر أنهم لم يغادروا المكان ولا الزمان.
ويتبقى فى الذاكرة أيضا فيلم المخرج سعد هنداوى «دبايوا» المخرج يوثق حياة قبيلة فى السودان تمتد جغرافيا من الحدود المصرية فى حلايب حتى البحر الأحمر، والفيلم من خلال المتحدثين، يؤكد أن حلايب مصرية، دبايوا هو التحية التى يتبادلونها وتعنى هل أنت آمن. إن هاجس الخوف من المجهول هو الذى يحرك هذه القرية ويزيد توجسهم تجاه كل ما هو غريب حتى المخرج اضطر إلى أن يبذل جهدا مضاعفا، لكى يزيل حواجز الخوف والتردد التى خيمت عليهم وهم يقفون أمام الكاميرا، هؤلاء يرفضون العنف أو على الأقل يحاولون تجنبه ولديهم قانونهم الخاص الذى يتولى تطبيقه الكبار فى القبيلة، محاولين وقف النزاع حتى حوادث القتل يميلون فيها إلى دفع التعويض الذى يرتضيه أهل القتيل، ولكن إذا تعذر ذلك فليس هناك سوى القصاص.
الفيلم الأمريكى «شمبانزى»، يرصد الفيلم حياة الشمبانزى من خلال أسرة من القرود تعيش فى الغابة وتكتشف تلك العلاقة الحميمة بين الأم وابنها وغريزة العطاء التى تولد مع الأم، وكيف يواجه هذا المجتمع الخطر بالضرب على الأشجار للتنبيه، وكيف ينقضُّون بعد ذلك على الفريسة. إنه عالم ليس مثاليا بالطبع، ولكنه فى كل الأحوال أفضل بكثير من عالم البشر.
«الاستمطار» أحد الأفلام الهامة للمخرج الإماراتى محمود مصطفى، الكلمة توحى بالانتزاع، أى أنك تستحث السماء على أن تُمطر من خلال الصعود بالطائرة وإحداث تفاعل طبيعى من السحابة عن طريق التلقيح الصناعى فينزل المطر بالطبع، هذا الأمر يشعر بأهميته أبناء الخليج، حيث لا توجد أنهار، بل إنه اقتصاديا تحلية مياه الخليج وجعلها صالحة للشرب تكلف مبلغا أكبر من الاستمطار، ولكن المأزق هو أن السُّحب غير متوفرة فى كل الأوقات. ربما يرى البعض ممن يملكون السلطة الآن فى مصر أن صلاة الاستسقاء تغنى عن الاستمطار، وأن على الإنسان أن يتوجه بالصلاة لكى تنزل السماء ماء، ولكن ما يؤكده الفيلم هو أن على الإنسان أن يسعى ويستند إلى العلم، وتزوى كل اللمحات، ويتبقى فقط تلك الأمنية.. أن نصبح فى بلدنا ورقة لوتس.