ما هى حسبة الإخوان المسلمين بالضبط التى يَحار فيها المراقبون؟ هل يرون ما لا يراه غيرهم؟ وإذا افترضنا صحة ما يقوله خصومهم إنهم لا يهمهم مصلحة الوطن وإنما يسعون لتحقيق مستهدفاتهم فقط، فهل يتوهمون أن سياساتهم وخطواتهم سوف تحقق لهم ما يرمون إليه وأنها لن تنقلب ضدهم قريبا؟ ما الذى يبرر لهم أن يبادروا طواعية ودون أى ضغط خارج عنهم باستعداء أحزاب وتيارات وقطاعات ونقابات وفئات وجماهير ورموز لها ثقل، وكان يمكنهم ألا يفعلوا، أو أن يؤجلوها إلى حين آخر؟ ما الذى يحببهم فى اكتساب أعداء كان يمكن جذبهم أو تحييدهم؟ هل يعتقدون أن تصعيد الأمور إلى حافة الاشتعال والاحتراب فى صالحهم؟ كيف؟
الحاصل، والذى صار واضحا برغم عدم تبريره أو تفسيره، أن الإخوان يدفعون دفعا بكل من يتعاطون السياسة والعمل العام، سواء على مستوى الممارسة أو الفكر، أن يحسموا مواقفهم، وأن يحددوا خنادقهم، وهذا هو الكامن وراء عمليات الفرز السريع الذى نراه يجرى على الأرض، ويكون أكثر وضوحا وحِدّة كل يوم عما سبقه، مما صار يتجلى معه قطبان محددان: أحدهما مع الإخوان، وهو آخذ فى الانحسار والتركيز حول كادر الجماعة وقواعدها وجماهيرها المباشرة تاريخيا إما من المتعاطفين أو فقراء المنتفعين، وأما القطب الآخر، فهو يتعاظم يوميا ويضم إلى قاعدته الأساسية المعارِضة للإخوان مبدئيا جماهيرَ عريضة ممن يعترفون بخطأهم فى تأييد مرشح الإخوان فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، أو ممن لم يعملوا بالسياسة قبلا وشجعتهم الثورة أو استفزتهم سياسات الإخوان الإقصائية والفاشلة فى تلبية مصالح الجماهير، وهناك أيضا ممن يلحقون بمعارضة الإخوان يوميا بعض أولئك الذين كانوا يظنون أنهم سيقتسمون المكاسب مع الإخوان مثل بعض الأحزاب السلفية، ومثل بعض المستقلين الذين وقعوا فى الخديعة وصدّقوا أن الإخوان أمناء على تنفيذ تطلعات الثورة، ومثل عدد كانوا على استعداد لإبداء مرونة استثنائية فى الاستجابة لمطالب الإخوان، ولكنهم فوجئوا بمغالاة الإخوان فى طلب مزيد من المرونة منهم، انظر فقط مثالا لهذا النموذج الأخير المستشار وزير العدل ومستشار رئيس الجمهورية للشؤون القانونية، اللذين قاما بجهود خرافية فى التمويه على عدوان الإخوان على الدستور والقانون، وسعيا ضد كل منطق إلى التجميل ببعض الرتوش القانونية الواهية على مستهدفات الإخوان الخاصة، ولكنهما فوجئا بأنه مطلوب منهما ما لا يقدران عليه، فتخوفا أن يتورطا فيما يرون أنه آت، وآثرا إبراء الذمة منه، وحاولا إبداء تبريرات غير مقنعة عما اقترفاه بالفعل!
لقد أسفرت سياسة الإخوان على قدر لم يكن متوقعا من ضحالة الكفاءة، ليس فقط لعدم الخبرة العملية فى أمور الحكم، فهذا عامل مشترك مع التيارات الأخرى، وإنما لغياب الثقافة النظرية بالسياسة والقانون والتاريخ والعلوم السلوكية والعلاقات الدولية التى باتت أكثر تعقيدا مما تستطيع معرفتهم وخيالهم الإلمام به، كما أن مستواهم فقير فى فنون الإعلام والاتصال الجماهيرى إلى حد أنهم يخلطون بين التعليمات غير القابلة للمناقشة التى يُقدمونها لكوادرهم المدربة على السمع والطاعة والامتثال للقرارات الهابطة من سماء مكتب الإرشاد، وبين ما يجب الالتزام به والتجويد فيه عند تلبية احتياجات جموع المواطنين فى معرفة الأخبار وخلفياتها وآثارها ونتائجها المتوقعة. وكان غريبا أن يتسم هذا الأداء الضعيف فى كل المجالات بقدر غريب من الحماقة، وكأنهم لم يقرأوا كتب المطالعة للفتيان عن حكمة الملوك القدامى فى الالتفاف حول خصومهم ومناوئيهم وتسويف التصادم حتى تُعدّ العدة! وكيف كان دهاة التاريخ يقدمون العاجل ويرجئون ما لا يُضطرون إليه، وفى كل الأحوال كيف كانوا يتلاعبون بمن يتصدى لحكمهم بأقل قدر من المواجهات!
ولكننا الآن إزاء جماعة تخترع المشاكل اختراعا، وتبذل قصارى الجهد لخسارة مؤيديها ولتوسيع دائرة معارضيها، وتخطئ بالجملة فى ترتيب الأوليات، وتضع فى صدارة من يمثلها من يفتقدون القدرة على الإقناع وعلى كسب حب الناس، وتكذب على الجماهير، وتفترى على المعارضين، ولا تعرف ما عليها أن تقوله وكيف ومتى وبأية وسيلة، والأهم أنها لا تعرف فضيلة الصمت أحيانا!
يبدو أن النهاية باتت قريبة، ولكنها لن تتحقق بالقصور الذاتى نتيجة لتراكم هذه الأخطاء، وإنما بنشاط دائب واعٍ لطبيعة اللحظة التاريخية وملابساتها داخليا وخارجيا، ومع الإدراك للصعوبة التى تكتنف كل هذا، ومع الالتزام بكل السبل السلمية التى نجحت فى الإطاحة بمبارك وعصابته بعد أن كانوا هم أيضا مدعومين من قاعدة عريضة من المنتفعين وغطاء قوى من أمريكا وإسرائيل، وكل هذا أدعى لإضافة بند هام بالتفكير الجاد من الآن فى مهام اليوم التالى بعد الخلاص من حُكم الإخوان، حتى لا نخوض مجددا فى ذات المتاهة التى تورطنا فيها بعد خلع مبارك.