خلاصة ما قلته فى سطور أمس، إنهم نصابون وكذابون ويبيعون بضاعة الجهل علنا وبغير احتشام، إذ لا علاقة ألبتة بين «مبدأ المساواة» الذى يهلفطون به هذه الأيام فى محاولة خائبة لتسويغ عدوان آثم وفاجر وغير مسبوق على مؤسسة العدالة والقضاء فى هذا البلد، وبين اختلاف سن الإحالة إلى التقاعد من فئة إلى أخرى فى المجتمع، حسب ما تقتضيه المصلحة وسعيًا وراء فائدة أكبر للجماعة الوطنية كلها.
واليوم أبدأ بأن مبدأ استقلال القضاء والضمانات والحصانات المقننة التى تكفل هذا الاستقلال وتبعث الاطمئنان والثقة فى نفوس الناس بأن العدل متاح وميسور، وأن حقوقهم وحرياتهم مصونة ومحميّة بقضاء نزيه حقا وغير خاضع لضغوط من أى نوع، هذا المبدأ لم يعد يستمد قوة نفاذه من القيم الإنسانية العليا التى راكمتها مسيرة الحضارة الطويلة فحسب، كما لم تعد شروط تطبيقه فى الواقع وسلامة البيئة الكفيلة بتحويله من مجرد ادعاء ورطان إلى حقيقة مادية ملموسة، أمر مرهون فقط بمدى تطور النظام السياسى فى كل بلد وما حققه من تقدم نحو الاتساق مع قيم الديمقراطية، بل أضحى هذا المبدأ واحدا من أهم عناصر منظومة «الحقوق الإنسانية» الأساسية العابرة للحدود والمقننة عالميًّا فى نصوص تعاقدية بين وحدات النظام الدولى المعاصر.. يعنى باختصار لم تعد ضمانات استقلال القضاء خيارا حرا للنظم والحكومات توفرها أو تأخذ ببعضها أو تهملها تمامًا كلها، إنما صارت هذه الضمانات (مثل سائر مبادئ ومكونات منظومة حقوق الإنسان) جزءا من الالتزامات القانونية للدول أمام مؤسسات الشرعية الدولية.
لقد كانت الانطلاقة الأهم والأكبر فى هذا السياق هى «الإعلان العالمى لاستقلال العدالة»، الذى صدر فى ختام مؤتمر دولى حاشد عقد لهذا الغرض فى مدينة مونتريال الكندية عام 1983، وتضمن الإعلان الذى اشتركت فى صياغته وفود أكثر من مئة دولة (من بينها مصر) حزمة متكاملة ومتنوعة من العناصر والاشتراطات والمبادئ التى تضمن استقلالًا حقيقيًّا للقضاء كمؤسسة وللقضاة الأفراد، إذ يستحيل عمليًّا الوصول إلى مرفق عدالة كفء ومستقل فعلا من دون توفير حصانات قوية للقاضى نفسه تجعله مؤهلًا وقادرًا على تنفيذ ما جاء فى الإعلان، أى «البت بحرية وحياد فى المسائل (القضايا) المعروضة على القاضى، حسب تقييمه الوقائع وفهمه القانون من دون أى قيود أو ضغوط أو تهديد ولا تدخلات مباشرة أو غير مباشرة من أى سلطة أو جهة كانت..».
وفى المجرى نفسه الذى شقه الإعلان العالمى آنف الذكر تدفقت تطورات تشريعية عالمية عديدة من أبرزها قرارات مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المدنيين، الذى التأم فى عام 1985 بمدينة ميلانو الإيطالية، فقد اشتملت هذه القرارات على قائمة تفصيلة بضمانات ومعايير استقلال السلطة القضائية، والحصانات والحمايات المهنية الضرورية للقضاة، وعلى رأسها عدم قابليتهم للعزل و«الإقالة وإنهاء الخدمة والإحالة إلى التقاعد» لأى سبب غير الأسباب التأديبية التى تنظرها وتحكم فيها جهة قضائية مستقلة ومخولة قانونًا بالنظر فى أخطاء ومخالفات القضاة.
إذن، مبدأ أن القاضى بسبب خطورة وحساسية مهنته، هو حالة استثنائية لا تنطبق عليه النظم الإدارية العادية المتعلقة بإحالة الموظفين إلى التقاعد (ولو بسبب السن) أمر معتبر ضمن أهم الضمانات فى منظومة القانون الدولى لحماية العدالة من مخاطر العدوان والتطويع والإرهاب.. ولهذا فالاتجاه العالمى فى التشريعات المتعلقة بالسلطة القضائية تجاوز رفع سقف سن إحالة القاضى إلى المعاش (حتى يستفيد المجتمع من ثروة الخبرة المتراكمة)، وذهب كثير من الدول إلى إلغاء التقاعد من الأصل، بحيث يبقى القاضى فى وظيفته مدى الحياة ما دام قادرًا وراضيًا وصالحًا لأداء واجبات الوظيفة.. يحدث هذا الآن فى عديد من بلدان العالم المتحضر التى لم يختبرها المولى تعالى اختبارًا قاسيًا ولا ابتلاها مثلنا بمصيبة سوداء من نوع جماعة الشر الإخوانية السرية الغبية جدا!