الآن يستعيد الذكرى. طيلة عمره كان يستغربها ويتأرجح بين الوهم والحقيقة. والآن - على فراش الموت- يدرك أنها حدثت. كان وقتها طفلاً فى الرابعة من عمره. الطفل الضعيف المُهدد بالموت. منذ بداية وعيه وهو يسمع أقوالاً متناثرة عن حالة قلبه الضعيف. يذكر الآن بشكل باهت أنه كان كثير التردد على عيادات الأطباء. وكانت أمه تهدئ من روعه وتكفكف من بكائه. يذكر أيضاً ملامح الخطورة على وجه الطبيب وكيف أخبر أمه - وهم يحسبونه لا يفهم- أن قلبه عليل وأيامه قليلة. وكيف انخرطت أمه فى البكاء وقبلته فى نهم. لم يتصور أحد وقتها أن تموت الأم الصحيحة ويعيش الطفل العليل، لكن هذا ما حدث. مرض عابر ألمّ بالأم اشتدت وطأته فجأة. ولكن لماذا يتذكر كل هذا الآن؟
أغمض عينيه فى تعب. يذكر الأيام التى سبقت وفاة الأم كحلم عابر بعيد، حتى ليخال أنها مرت به فى عمر آخر. كانت مُتعبة منهكة، وفى كل يوم تزداد نحافة. يذكر أنها كانت ترتدى ثوباً حريراً هفهافاً، حين طلبت أن تراه. وعندما جاء إلى الغرفة خائفاً مرتبكاً وجد الوجوه شاحبة وحزينة. ناولته إحداهن لأمه فانتابتها قوة طارئة وشرعت تضمه وتقبله. يذكر أنه بكى. يذكر أيضاً أنه أحس بتعب مفاجئ. وفجأة شاهد نفسه يسير فوق مرج أخضر ممسكاً بيد أمه. وكانت ضحكته الفضية تجلجل فى الأرجاء. وفجأة وجد يده خالية، نظر إلى أسفل فوجد نفسه على حافة هاوية، فأدرك أن أمه سقطت. ارتبك. انزلقت قدماه. أمسك بحافة المرج بكل ما أوتى من قوة. وفجأة عاد إلى الغرفة ليجد أمه فى أحضانه شاحبة هادئة. وساد الصمت فى الغرفة وكأن الكون يحبس أنفاسه. وفجأة شاهد طيفاً يغادر جسد أمه ويترقرق فى خطوات فياضة. ثم التف الطيف ونظر إليه وابتسم. تردد أيهما أمه الحقيقية؟ النائمة بجواره أم المُغادرة؟ لكن فطرته أخبرته الإجابة الصحيحة. قام محاولاً اللحاق بطيف أمه. وبالفعل أحس أن يده التى تمسك بحافة الهاوية تتراخى وأنه يوشك أن يسقط لأسفل. فيما بعد قالوا إنه كان أقرب إلى الموت ساعتها، وأن نبضاته كانت ضعيفة ومتباعدة. يذكر أنه شاهد طيفه الصغير ينفصل عنه ويمسك بيدها. طيفان أحدهما صغير يوشكان أن يذهبا معاً. لكن طيف الأم انحنى وراح يهمس للطيف الصغير أنها تحبه. وأنه يجب أن يثق بها. وأن أمامه أعواما سعيدة، وبعد أعوام كثيرة ستكون موجودة لاستقباله.
صدقها كما اعتاد أن يصدقها، وأحس بأنفاسه تهدأ، وقوته تعاوده. وبأن يده تمسك بالحافة فى قوة وإصرار، ثم يرفع جسده الصغير فى ثقة. ثم يقف على قدميه ويتماسك. عاد الطيف الصغير وانصرف الطيف الآخر.
الآن هى تنتظره. بعد كل هذه الأعوام تنتظره! ولعلها الآن فى غرفته. وعدته بأن تكون فى انتظاره. سوف تستخلص طيفه الصغير من جسده العجوز المتعب، وينطلقان معاً إلى أفق أرحب وسعادة لا تعرف الحزن وراحة لا تعرف التعب.